عبد المنعم سعيد&&&

حينما أطلت «العولمة» برأسها على العالم، كتب عالم السياسة الدولية المعروف جيمس روزناو أن العالم يتعرض لعمليتين متناقضتين في آن واحد؛ العولمة، التي تزيد العالم اندماجًا بفعل عناصر التجارة والمال والقيم وانتقال البشر، والتفكك بفعل انكفاء الجماعات على نفسها وميلها إلى تكوين وحداتها السياسية الخاصة. كان العالم فعليًا يسير في الاتجاهين في وقت واحد، فالتكامل والاندماج تسارعا على المستوى العالمي حتى ولدت منظمة التجارة العالمية، ومعها اتسعت الجماعة الأوروبية حتى ولد الاتحاد الأوروبي الذي يضم 28 دولة، وصار لمجموعة من دوله عملة مشتركة وبنك مركزي واحد ونظام أمني واحد للدخول والخروج، وفي جنوب شرقي آسيا كانت منظمة «آسيان» أكثر تكاملاً واندماجًا من أي وقت مضى. زاد حجم التجارة العالمية، وانتقال السلع والبضائع والأفراد، ورغم أن النظام المالي العالمي لم تقم منظمة لتنظيمه، إلا أن الواقع كان أن التدفقات الرأسمالية في الدنيا كلها فاقت كل ما كان معروفًا في التاريخ. التفكك على الجانب الآخر تسارعت خطواته، فانهار الاتحاد السوفياتي فصار 15 دولة، ويوغوسلافيا فصارت 6 دول مضافًا لها كوسوفو، التي لا يزال وضعها متأرجحًا بين اعتراف دولي وإنكار صربي. أما إثيوبيا والسودان وإندونيسيا فصار كل منها دولتين؛ ومن عجب أن دولة مثل تشيكوسلوفاكيا عرفت انقسامًا مخمليًا بين دولة التشيك وجمهورية السلوفاك انتهي إلى تكامل داخل الاتحاد الأوروبي بانضمامهما إلى المنظمة الأوروبية التي تأخذ بعضًا من سيادتهما.

الجدل ما بين الاتجاهين، الاندماج أو التكامل مع التفكك والانقسام تفاعلا ديالكتيكيًا خلال الربع قرن الماضي (1990 - 2015). وبينما كان الأول يأخذ الدنيا كلها إلى مستقبل موعود تتراجع فيه السيادات الوطنية، والدولة القومية في عمومها، كان الآخر يجذبها في الاتجاه المضاد إلى الدرجة التي بدأ فيها الضغط على الهويات الفرعية في الدولة حتى تتابعت الشروخ داخل الدولة الوطنية. ولم يحدث ذلك فقط في الدول التي عرفت فيها حركات انفصالية مثل إقليم «الباسك» في إسبانيا، وإنما في أقاليم أخرى مثل «كاتالونيا»؛ وإنما في دول أخرى ساد الظن أو النزعة «القومية» باتت راسخة فوجدنا اسكوتلندا تطلب الاستقلال عن المملكة المتحدة. ولم تسلم الولايات المتحدة من هذا الاتجاه، وإنما وجد أنصاره فرصة في الدستور الأميركي عندما بدأ التأكيد على الأساس «الفيدرالي» للدولة والذي يعطي للولايات سلطات كبيرة. الأمر المهم هنا أن التفاعل بين الاتجاهين، وكلاهما يسير في اتجاه مضاد للآخر، بات ضاغطًا على معظم دول العالم، خصوصًا بعد أن أخذ صبغات دينية كما حدث في روسيا الفيدرالية التي وجدت في الشيشان والتتار رغبات انفصالية عنيفة.

التوتر ما بين الاتجاهين آخذ في التصاعد خلال هذه المرحلة من التاريخ البشري، فلم يعد التوتر قائمًا على نزعات انفصالية لدى هويات فرعية في الدولة دينية أو مذهبية أو عرقية، وإنما هذه الأخيرة صارت في النهاية قومية لها الخصائص التقليدية للقومية مثل اللغة والهوية والتاريخ، وإنما فوق ذلك المصالح الاقتصادية والسوق الخاصة والتعامل المباشر مع السوق العالمية. ولعل الخروج المدوي لبريطانيا من الاتحاد الأوروبي خلق بداية ليس فقط لتفكك الاتحاد، وإنما وفق بعض التحليلات ربما يؤدي إلى تفكك المملكة المتحدة نفسها. كذلك، فإن السياسة الدولية باتت تشاهد ثلاث مناطق في العالم عامرة بنزعة «قومية» متزايدة؛ أولها كما هي العادة في أوروبا التي قدمت للدنيا أكثر الاتجاهات التكاملية تقدمًا ممثلة في الاتحاد الأوروبي، فإنها الآن تعاني من «الأزمة الأوكرانية» التي تعكس نزعات قومية روسية متطرفة قامت بضم إقليم «القرم»، وفوق ذلك خلقت ضغوطًا قومية متطرفة في شرق أوكرانيا تريد الانضمام إلى روسيا مقابل نزعات قومية لا تقل تطرفًا في قوميتها تريد الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، أو بالأحرى إلى الغرب الأوروبي. مثل ذلك يحدث الآن في الصين، التي ظلت إلى وقت قريب تروّج لكونها واحدة من دول العالم الثالث، ولمنهجها «الاقتصادي» في العلاقات الدولية. الآن تغير ذلك كله، فمن ناحية زاد الإنفاق العسكري الصيني بسرعة وحجم كبيرين، ومن ناحية أخرى وضعت الصين القدرة العسكرية الناجمة عن الإنفاق موضع التطبيق في بحر الصين الجنوبي بحيث بدأت في فرض أمر واقع على سلاسل من الجزر، وأكثر من ذلك أقامت نوعًا من السيادة الجديدة تقوم على إنشاء جزر صناعية لا يعرف القانون الدولي كيفية التعامل معها من حيث حرية الملاحة أو حقوق السيادة. النتيجة أن الصين مع زيادة قوتها ونزعتها القومية خلقت خللاً في توازنات القوى، ومعه سلسلة من ردود الفعل في دول الإقليم، خصوصًا في فيتنام والفلبين، حيث تصاعدت النزعات القومية، ومعها توترات سياسية وجيوسياسية في الإقليم.

الشرق الأوسط كان الإقليم الثالث الذي انتابته حالة التوتر ذاتها بين التكامل والتفكك، ولكن وفق الظروف الخاصة في المنطقة. فرغم أن الربع قرن الماضي شهد نقلة كبيرة في تكامل الإقليم من خلال عناصر التجارة والاستثمار والنفط والغاز والكهرباء وانتقال العمالة والتحويلات الرأسمالية؛ فإن نزعة العولمة فيه أصابتها صبغة دينية متعصبة ورجعية ومتناقضة تناقضًا وحشيًا مع العالم كله تحت مظلة «الخلافة» العالمية. وكانت النتيجة صاعقة ومكلفة في البشر والحجر، وبينما كانت البداية في الأطراف عندما انقسم الصومال، ومن بعده السودان، فإن الاحتلال الأميركي للعراق قابله انقسام الدولة العراقية موضوعيًا إلى ثلاثة أقاليم، والآن فإن سوريا ولبنان وليبيا واليمن تتعرض لضغوط بالغة نحو التفكك. والحقيقة، فإن دولاً مهمة في المنطقة مثل تركيا وإيران تتعرض هي أيضًا للضغوط ذاتها، وكثيرًا ما كان سلوكها الخارجي تعبيرًا عن انقسامات داخلية، وتوترات عرقية ومذهبية نبعت من هويات وأعراق تريد الخروج من حوصلة الدولة القومية.

الثمن كما نعرف جميعًا كان فادحًا حتى الآن في المنطقة، بقدر ما هو منذر في بقية مناطق العالم. ولكن ما يهمنا أن الجهد الإقليمي لتلافي الآثار السلبية لهذه الأقدار الصعبة لا يزال ضعيفًا؛ وأكثر من ذلك فإنه يقوم على الخوف من السقوط في هوة الانقسام بدلاً من العمل على تلافيه. فالحقيقة التي لا يمكن تجاهلها هي أن هناك قضية كردية، سواء كان ذلك في العراق أو سوريا أو تركيا؛ كما أن التحركات الإيرانية في الإقليم دفعت في اتجاه القسمة بين السنة والشيعة في أكثر من دولة؛ كما أن أوضاعًا تاريخية وقبلية تخلق أوضاعًا للتقسيم في ليبيا واليمن. كل ذلك لا يمثل أقدارًا لا يمكن تلافيها، بل إن هناك أكثر من طريقة للتعامل معها، بعضها نشاهده بنجاح في دولة الإمارات العربية المتحدة، وبعضها نشاهده في دول عربية أخرى بمعالجات اقتصادية وتنموية. وهناك في النهاية سبل لاستكشاف كيفية التعامل مع الأقليات من ناحية، ومحاولة خلق مشروع حقيقي نحو مستقبل أكثر قبولاً من ناحية أخرى، وأخيرًا، ومن ناحية ثالثة، فإن اللامركزية تمثل مشروعًا مرنًا للتعامل والتكيف مع أوضاع مختلفة من بلد إلى آخر.

&&