خالد عباس طاشكندي

بعد فشل المساعي الأمريكية لإيجاد أي دليل يثبت علاقة المملكة بأحداث الحادي عشر من سبتمبر، وعلى طريقة رعاة البقر، اتجهت الحكومة الأمريكية نحو تشريع قانون عجيب يخول لذوي ضحايا أحداث سبتمبر مقاضاة الحكومة السعودية تحت مسمى «قانون جاستا» (Justice Against Sponsors of Terrorism Act-JASTA)، أو حسب الترجمة النصية «قانون تطبيق العدالة ضد رعاة الإرهاب»، وهو بكل تأكيد تشريع غير دستوري ويضرب بالقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة عرض الحائط بتجاوزه سيادية الدول وحصانتها من خلال مضامين يغلب عليها المنظور السياسي وينحرف عن كل المفاهيم القانونية العالمية التي نظمت العلاقات الدولية ولا تسمح تحت أي بند في القانون الدولي لقضاء أي دولة في العالم بالنظر في دعاوى مواطنيها ضد دول أجنبية أخرى، ولكن هذه هي الإمبريالية الهوجاء التي ستفتح الباب على مصراعيه لإحداث فوضى عارمة في تنظيم العلاقات القانونية بين دول العالم بالسماح لمواطنيها بمقاضاة دول أجنبية أخرى والحجر على استثماراتها دون مسوغات قانونية لذلك.

وبعد أن عجزت الولايات المتحدة في إثبات المزاعم التحريضية التي تقف خلفها لوبيات صهيونية وإيرانية وبعض الجهات الإعلامية المحسوبة عليها بأن المملكة ضالعة في أحداث سبتمبر، انتهاء بتقرير الـ«28 صفحة» الخاص بالتحقيقات السرية التي تبعت الأحداث، والضغوطات التي مورست للكشف عن تلك الصفحات بحجة أنها تحوي أدلة تدين الحكومة السعودية، وهو ما أثبت مجدداً سلامة موقف المملكة التي اكتوت بنار الإرهاب ودأبت على مناهضته وتجفيف منابعه، ومع ذلك لم تتوقف تلك المساعي لتأخذ منحى آخر لا يعد دستوريا وفقاً للمتعارف عليه في القانون الدولي الذي يكفل عملياً محاكمة المتورّطين في أية أحداث إرهابية، ولكن هذا الأمر يتم وفقاً لإجراءات وتدابير مختلفة لا تقع تحت طائلة القضاء المحلي في بلد ما ووفقاً لرغبات مواطنيه.

وبالرغم أن هذا القانون لم يقر بعد ومن المرجح أنه لن يقر في نهاية المطاف سواء بالفيتو الرئاسي أو عدم الوصول لأغلبية الأصوات (الثلثين) داخل الكونغرس بشقيه، إلا أن مجرد الخوض فيه يعد بمثابة الانتحار الاقتصادي للولايات المتحدة؛ لأن مثل هذه التشريعات «غير الدستورية» ستدفع المستثمرين الأجانب لسحب أموالهم وعدم التورط في أي استثمارات ضخمة داخل الولايات المتحدة، وهو ما يدفع للتساؤل حول الأسباب التي تدفع حكومة الولايات المتحدة للخوض في هذه المغامرة ذات العواقب الخطيرة؟!

في هذا السياق، وبعيداً عن المؤامرات الصهيونية والإيرانية التي تحاك خلف كواليس الكونغرس، كشف أخيرا «رون بول» عضو الحزب الجمهوري في مجلس النواب وأحد المرشحين السابقين لخوض الانتخابات الرئاسية الأمريكية في 2008، عن تفسيرات منطقية لما يجري في الولايات المتحدة وما يدفعها لمثل هذه التوجهات التي حدثت أخيرا ضد المملكة، والتي تهدف في المقام الأول للحجر على مئات المليارات من الدولارات وفقاً لأحكام «عرفية» أو ما أسماه رون بول «القانون المالي للدفاع عن النفس» (Financial Martial Laws)، مشيراً إلى أنه يتوقع أن الحكومة الأمريكية سوف تقرها قريباً لإنقاذ نفسها من بوادر الانهيار الاقتصادي المحتمل الذي تخفيه حتى لو بلغ الأمر بها نحو السطو على الحسابات المالية للأفراد وحقوقهم القانونية والدستورية لحماية الدولار والاقتصاد الأمريكي من أي انهيار بات وشيكاً، مؤكداً أن الحكومة الأمريكية ستفعل ذلك إذا لزم الأمر.

وأوضح أن الكثيرين يجهلون أن أمريكا فعلت ذلك في السابق من خلال وضع اليد على أموال مواطنيها، وستفعل ذلك مجدداً وتضع يدها على مدخرات التقاعد المقدرة بـ23 تريليون دولار والحسابات المصرفية للأفراد الخاصة بالمواطنين وسوق الأوراق المالية لحساب «الصالح العام»، وذلك من خلال سن القوانين التي تخول لهم فعل ذلك، وقال إن هذا هو المرجح في ظل وجود بوادر لانهيار مالي، واصفاً الوضع حينها إذا لم تفعل الحكومة ذلك بأنه كارثي؛ لأن العديد من الدول التي ضخت استثماراتها في الاقتصاد الأمريكي واشترت سندات حكومية باعتبارها الأكثر موثوقية وأماناً منذ عقود ستقوم بسحب ملياراتها، وحينها سوف يفلس الكثير من الأثرياء والعديد من الموظفين يفقدون وظائفهم ولن تكون هناك أي مدخرات في حسابات المتقاعدين، وستحدث فوضى اجتماعية تدفع إلى حاجة الحكومة الأمريكية لفرض مثل هذه الأحكام العرفية الديكتاتورية.

واستشهد العضو الجمهوري رون بول بحدوث مثل هذه القوانين الوضعية المخيفة عدة مرات في تاريخ أمريكا وبعدة أوجه، من بينها ما حدث في العام 1933 حين وقع الرئيس فرانكلين روزفلت على مشروع قانون يجبر جميع أفراد الشعب الأمريكي على تسليم جميع الذهب الذي يملكونه قبل دخول اليوم الأول من مايو 1933 إلى الاحتياطي الاتحادي حتى لا تجمد أموالهم مقابل سعر أساسي، وهو ما أفقد الشعب الأمريكي 41% من مدخراته، وأضاف بول عددا من الشواهد حتى في السنوات الأخيرة حول دراسة وصياغة وسن قوانين متعلقة بفرض الضرائب على المواطنين لحماية الاقتصاد الأمريكي والحكومة من الإفلاس الوشيك، مؤكداً أن الحكومة الأمريكية ستفعل أي شيء للتخلص من كارثة دينها العام الذي تجاوز 19 تريليون دولار، ولذلك يتوقع أنها ستقوم بإجراءات وتصرفات صادمة وغير متوقعة خلال الأشهر القليلة القادمة، ناصحاً المشاهدين بالبحث عن أماكن أكثر أمانا لترك أموالهم واستثماراتهم فيها.

أقف عند هذا القدر من الحقائق حول الوضع في الداخل الأمريكي والذي من الواضح أنه انعكس على السياسة الخارجية الأمريكية التي يبدو أنها قررت أن «تتغدى بنا قبل أن تتعشى على شعبها» من خلال تمرير قانونها الجديد لمصادرة استثمارات سعودية بمئات المليارات، وليس أمامنا سوى المضي قدماً نحو بناء توازنات جديدة في علاقاتنا الإستراتيجية الخارجية؛ لأن أمريكا تتراجع على جميع الأصعدة بما فيها الأخلاقية.