روعة قاسم

&شهدت تونس حادثة غريبة من نوعها وغير مألوفة داخل المجتمع التونسي تمثلت في خطبة فتاة لم يتجاوز عمرها 12 سنة لشاب في العشرين من عمره وقيل في رواية أخرى أنه لم يتجاوز الخامسة عشرة. فتونس ومنذ استقلالها وإلغائها لاحقاً للنظام الملكي وإعلانها للجمهورية، سنت جملة من القوانين المتعلقة بالأحوال الشخصية والحالة المدنية وحقوق الطفل حددت بمقتضاها سن الزواج وسعت إلى حماية الطفولة بكل ما أوتيت من جهد.

لكن ظواهر غريبة برزت في السنوات الأخيرة أكدت في كثير من الأحيان على أن الفكر الحداثي الذي حرص على نشره الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة، مازال لم يتغلغل بعد في صفوف جميع التونسيين. ومازال هناك حنين لدى البعض لأيام العهد الملكي حيث كان زواج القاصرات أمراً مألوفاً وإجبار الفتاة على الزواج غصباً مسألة اعتيادية لا تثير حنق المجتمع.

ووفقاً للصور التي تم تداولها في مواقع التواصل الإجتماعي فإن الطفلة التي تنتمي إلى ولاية قفصة جنوب غربي البلاد، بدت سعيدة بخطبتها وبالتقاط الصور مع من تعتقد أنه حتما زوج المستقبل. كما بدا الصبي المراهق ذو الجسد النحيل الذي يحضنها، سعيداً بدوره بما حصل وعلى أحر من الجمر لإتمام الزواج في أسرع الآجال.

&ردود أفعال

&لقد تتالت ردود الأفعال حول هذه الصور، التي انتشرت بين التونسيين انتشار النار في الهشيم، وخشي البعض من أن تعود الخضراء قروناً إلى الوراء، فيما حمل آخرون المسؤولية إلى الدولة التي لم تقم بدورها في توعية الناشئة بحسب رأيهم. وتم أيضاً تشبيه تونس ببلاد عربية تنتشر فيها هذه الظاهرة وأكدوا على أن الخضراء تسير على خطى هذه الدولة وأن العواقب ستكون وخيمة بدون شك.

بالمقابل فإن هناك من المحافظين من دافع على «الخطيبين» واعتبر أن ما قاما به هو خطوة في الإتجاه الصحيح وعمل يذكر فيشكر ويؤجران عليه. وحجة هؤلاء هو أن الزواج المبكر يحفظ المرأة والرجل على حد سواء من الانزلاق نحو المحرم من الأفعال خارج الإطار الشرعي.

بدوره اعتبر المندوب الجهوي للطفولة بولاية قفصة (ممثل وزارة المرأة بالجهة) بأن الأمر عادي ولا يستحق كل هذه الضجة التي أثيرت حوله. كما اعتبر ما معناه أن الفتاة بالغة وذات بنية جسدية تسمح لها بالزواج وتبدو أكبر من سنها واختصر كل هذا الوصف بعبارة «فاخرة» بالعامية التونسية.

&انتقادات فإقالة

وبمجرد إصداره لهذه التصريحات تعرض المندوب الجهوي للطفولة بقفصة إلى انتقادات واسعة فرأى البعض في استعماله لعبارة «فاخرة» إساءة للمرأة والنظر إليها كسلعة أو كجسد، فيما رأى البعض الآخر فيها تشجيعاً على زواج القاصرات وعلى العودة بالزمن إلى الوراء وطالبوا بإقالته من منصبه.

ولم تنتظر الوزيرة الجديدة للمرأة السيدة نزيهة العبيدي، التي تنتمي إلى حزب المبادرة الدستورية، الكثير من الوقت لتحسم في المسألة، فقررت فوراً إقالة المندوب الجهوي للطفولة بقفصة. وقد خلفت هذه الإقالة احتجاجات بجهة قفصة من قبل أطراف اعتبرت أن ابن جهتها تعرض إلى مظلمة وجب رفعها عنه وإعادته إلى عمله.

وفي هذا الإطار يعتبر الكاتب والباحث التونسي في علم الإجتماع هشام الحاجي في حديث لـ«القدس العربي» بأن الحادث كان صادماً من الناحيتين الاجتماعية والنفسية لأنه جاء في سياق معاكس تماماً لما تعود عليه التونسيون والتونسيات من احترام للقانون المانع بشكل قطعي لكل أشكال تزويج الأطفال القصر ولكل تعريض لحياتهم الخاصة للانتهاك من خلال تصويرها وبثها.

ويضيف قائلاً: «ويحمل هذا الحادث دلالات عدة من الناحيتين النفسية والاجتماعية. ففي المستوى النفسي فقد جاء حاملاً لإشارات حول وجود نزعات ورغبات يمكن اعتبارها «بدائية»، وقد ساهم تقلص تأثير الدولة ومؤسساتها في بروزها على السطح. وهذه النزعات تتنافى مع الحداثة بما تقوم عليه من حرية الاختيار. وتعين التذكير بالتصورات التقليدية التي تقر فعلياً بخصوصية الطفولة وما تدعو إليه من ضرورة فرض تشريعات حمائية من شأنها أن تمكن الطفل من التمتع بطفولته ومن نيل حقه في التكوين. وأما في المستوى الاجتماعي فإن غياب منطق الدولة يمكن أن يؤدي إلى غيــاب منــطــق الحداثة وإلى ظهور «مناطق اللادولة» ويعتبر هذا أمراً خطيراً للغاية».

&عامل تنبيه وتحذير&

وحول سؤال «القدس العربي» عما إذا كان ممكناً الحديث عن ظاهرة لزواج القاصرات في تونس أجاب محدثنا بأنه لا يعتقد أن هذا الحادث يمكن أن يتحول في المدى المنظور إلى ظاهرة إجتماعية بمعنى الإنتشار الواسع، ولكن هذا لا يمنع من ضرورة اعتبار الحادث عامل تنبيه وتحذير حتى لا تتكرر هذه الحادثة. والأرضية الإجتماعية قد تكون في بعض جوانبها ملائمة لتحول هذه الحادثة إلى ما يشبه الظاهرة في ظل ما يبدو من تنامي تأثير المد التكفيري وما يرتبط به من سلوكات وتصورات تمثل عودة إلى المجتمع التقليدي.

ويعتبر الحاجي أن ما يمكن تسجيله هو الطريقة الإيجابية التي تعاطى بها الرأي العام الوطني مع هذا الحادث المعزول إذ سرعان ما تحركت شبكات التواصل الإجتماعي واعتبرت ان الحادث خطير ولا بد من التصدي له بسرعة أكدت بالدليل القاطع على تجذر مكاسب الحداثة في المجتمع التونسي وعلى أن المجتمع المدني قادر على التصدي وعلى رد الفعل وهذا ما خلق ديناميكية هامة. ولأن الرأي العام قد تصدى بسرعة وبقوة لهذا الحادث المعزول فقد دفع ذلك بوزيرة المرأة بحسب محدثنا للتفاعل إيجابيا والتحرك ليلاً لوضع حد لهذا الإنفلات.

&حماية هامة&

ويعتبر الحاجي أن الحديث بشكل موضوعي عن حقوق الطفل في تونس يدعو للإشارة إلى أن الطفولة تتمتع من الناحية القانونية بحماية هامة توفر للطفل المجال للنمو متوازنا وسليما، ولكن هناك بعض المظاهر التي تشير برأيه إلى تنامي الهشاشة الإجتماعية والنفسية كالانقطاع المبكر عن التعليم واستهلاك المخدرات والتشرد والتسول والانتحار.

ويختم محدثنا بالقول: «إن وزارة المرأة وضعت قبل 14 كانون الثاني/يناير 2011 برامج عدة هامة للنهوض بالطفولة والأسرة ولكن توقف العمل بها بعد الثورة وهو ما انعكس سلبيا على وضعية الأطفال والنساء والأسرة عموماً. وشخصياً لا أخفي الآن تفاؤلي بالوزيرة الجديدة التي لها تجربة في الميدان ولها الكفاءة الإدارية إلى جانب إيمانها الراسخ بضرورة الدفاع على حقوق المرأة والطفل وتوازن الأسرة، وهذه عوامل هامة للتفاؤل».

&إجرام في حق الطفولة&

من جهتها اعتبرت ليلى العياري رئيسة لجنة العمل الاجتماعي والتطوعي ان ظاهرة تزويج الفتيات القاصرات هي اجرام في حق الطفولة ودعت الى مكافحتها من قبل الدولة والمجتمع المدني ومحاسبة كل من يشجع على زواج القصر. أما عن الأسباب التي تدفع الفتيات للإقبال على الزواج المبكر فأجابت في حديثها: «هناك أسباب عديدة منها قلة الوعي والفقر فتكون الفتاة سلعة يتاجر بها اهلها لنشلهم من الفقر».

وشددت العياري على أهمية توعية الفتيات لكي لا يقعن في هذا الشرك وفي هذه الممارسات التي تحرمهن من طفولتهن. وأضافت محدثتنا ان هناك ظواهر عديدة بدأت تظهر في تونس وهي دخيلة على المجتمع، لان الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة – بحسب قولها – وضع منذ فجر الإستقلال ضوابط وقوانين تحدد سن الزواج للفتاة. وتابعت بالقول: «ولكننا الآن نعيش عصر عدم وجود دولة يحترم فيها الشعب القانون والدستور في ظل غياب مرشدات اجتماعيات يشرفن بضمير على قطاعات المرأة والأسرة والطفولة. اذ تراجع دور المرشدات، وبات عملهن يقتصر في اغلب الاحيان على المهام الإدارية دون أن يحرصن على الوصول الى القرى والارياف وتوعية العائلات بشأن قضايا عديدة منها تنظيم النسل والتعريف بحقوق الأطفال.

وأكدت العياري أن ظاهرة تزويج القاصرات غريبة عن المجتمع التونسي وليست منتشرة بكثرة وتابعت بالقول: «ولهذا نستطيع السيطرة عليها فنحن ورثنا ارثاً كبيراً وهو مجلة الاحوال الشخصية التي تضمن حماية الفتيات من عبث العابثين».

وأشارت الناشطة الاجتماعية إلى أنه في اليمن وبعض الدول الاخرى، تنتشر هذه الظاهرة بسبب عوامل عديدة منها وجود بيئة مجتمعية تشجع على هذه الممارسات، ولكن الوضع مختلف في تونس فبقليل من الجهد والتوعية والمحاسبة نستطيع القضاء عليها. وقالت أيضاً أنها تعول على المجتمع المدني اكثر مما تعول على الحكومة. وطالبت المؤسسات المعنية بالأسرة والطفولة بالتنبه لهذه الظاهرة والقيام بدورها في حماية الطفولة والتشديد على تنفيذ العقاب على كل من تسول له نفسه المتاجرة بالاطفال باسم الزواج لان عصر الجواري قد ولى، وشددت على أهمية أن ينعم الأبناء بطفولتهم وأن يأخذوا حقهم في التعليم والحياة الكريمة ودعت المجتمع المدني للتحرك من أجل احتواء هؤلاء الاطفال لحمايتهم ووضعهم تحت رقابة الدولة، كما دعت إلى تنفيذ وتطبيق القوانين التي تعاقب كل من ينتهك حرمة الطفولة.

&دفاعاً عن المكتسبات

&واعتبرت الناشطة الحقوقية التونسية الخبيرة بقضايا المرأة إيمان برهومي في حديثها لـ«القدس العربي» أن هذه الحادثة التي هزت تونس من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها، وبقدر ما أزعجت التونسيين بقدر ما أثبتت أن الشعب التونسي جاهز للدفاع عن مكتسبات حداثته. وهو ما أكدته الهبة الواسعة لمختلف الشرائح للتصدي إلى هذه الظاهرة التي لم تعتدها الأجيال الجديدة من التونسيين.

فمن غير اللائق لشعب أنفق ثلث ميزانيته منذ الإستقلال على التعليم مثل الشعب التونسي أن يعرف ظاهرة زواج القاصرات المشينة التي تعاني منها بعض المجتمعات العربية، خاصة وأن نسبة الإناث في الجامعات التونسية فاقت نسبة الذكور ولا يمكن لامرأة متعلمة أن تقبل بأن تباع وتشترى في سوق النخاسة الحديث، وحسناً فعلت وزيرة المرأة حين تدخلت مباشرة في الموضوع وضربت بقوة حتى لا يتكرر الأمر مستقبلاً وتعود تونس إلى الحقب الظلامية التي امتهنت فيها كرامة المرأة وبيعت جسداً في مشارق الأرض ومغاربها، وهي، أي تونس، التي ألغب العبودية منذ سنة 1848 وسبقت بلداناً غربية.

&لا عقاب على الخطبة

&من جانبه اعتبر الحقوقي ورجل القانون محمد درغام في حديثه لـ«القدس العربي» أن القانون التونسي لا يعاقب على خطبة القاصر ولا يوجد نص قانوني صريح في هذا الإطار لا بالمجلة الجزائية ولا بمجلة حقوق الطفل ولا بمجلة الأحوال الشخصية أو حتى قانون الحالة المدنية. ومن مبادئ القانون الجنائي بحسب الحقوقي التونسي، أنه لا يمكن معاقبة شخص وتجريم أفعاله بدون نص قانوني سابق الوضع، وبالتالي فإن هذه الخطبة الغريبة عن تقاليد المجتمع التونسي والتي تزدريها أعراف الحداثة التي نشأ عليها جيل الإستقلال في تونس تدخل في إطار المباح من الأفعال وإن كان لا يمكن قبول هذا الواقع.

فهناك إذن فراغ تشريعي تونسي، بحسب درغام، وجبت معالجته في أقرب الآجال حتى لا تتكرر مثل هذه الأفعال وتصبح ظاهرة قد تهدد المجتمع التونسي من خلال طفولته وترجعه قروناً إلى الوراء. ولا يمكن حصول هذا الأمر، بحسب محدثنا، إلا بتكاتف الجميع إعلاميين وحقوقيين وسياسيين ومنظمات مجتمع مدني وغيرها. وعلى هذه الأطراف أن تضغط لمزيد سن القوانين الحمائية للطفولة التي تبدو اليوم مهددة في تونس بعديد المخاطر.

ويختم محمد درغام حديثه بالقول: «تجدر الإشارة إلى أن القانون التونسي، وإن كان لا يمنع صراحة الخطبة، إلا أنه يجرم وبشدة زواج القاصر باعتبار غياب النضج وحرية الإختيار لديها، وباعتبار أيضاً عدم اكتمال النمو الجسدي للقاصر ما قد يعرضها لمخاطر صحية جمة بفعل الزواج».