وليد محمود عبدالناصر

لم يكن علي أكبر هاشمي رفسنجاني، الذي رحل عن 82 سنة، رجل دين عادياً في إيران. ولم يكن سياسياً عادياً في تاريخ إيران منذ عقد الستينات في القرن الماضي. 

فقد كان شخصية محورية في مختلف مراحل التاريخ الإيراني المعاصر، خصوصاً منذ انتصار ثورة شباط (فبراير) 1979، فقد كان رفسنجاني دائماً حاضراً في مختلف الأحداث، سواء تلك التي تتم على مسرح المشهد السياسي أو في كواليسه، سواء عندما كان أحد تلاميذ وأتباع الخميني بعد الصدام الأول بين الأخير ونظام الشاه في عام 1963، أو كأحد مستشاري الخميني الذي يحظى بثقته في ما بعد، خصوصاً كهمزة وصل بينه وبين المقاومة الفلسطينية وشيعة لبنان قبل انتصار الثورة الإيرانية، أو كرئيس لمجلس الشورى (البرلمان)، ثم كرئيس للجمهورية، وبعد ذلك كرئيس لمجلس تشخيص مصلحة النظام، وخلال ذلك كرئيس لمجلس الخبراء بين عامي 2007 و2011، وغير ذلك من أدوار حيوية لعبها.

لم يتصف رفسنجاني بأي درجة من درجات التشدد العقائدي، ويصدق ذلك حتى خلال فترة قصيرة نسبياً قبل الثورة ارتبط فيها بعلاقات مع منظمة «مجاهدين خلق إيران» التي كانت تمثل آنذاك اليسار الإسلامي في إيران، كما أنه لم يكن زعيماً يمكن وصفه بـ «الكاريزمية»، ولكنه بلا شك كان «الأستاذ الماهر» في التكتيكات والتحالفات المرنة والمناورات السياسية، كان كما أطلق عليه البعض لقب صانع الرؤساء، وبخاصة نظراً لدوره في دعم كل من الرئيس الأسبق محمد خاتمي والرئيس الحالي حسن روحاني، وكلاهما يصنفان كإصلاحيين، وإن كان البعض الآخر يرى أنه فعل ذلك مضطراً عندما لم يتمكن هو نفسه من الترشح في الانتخابات الرئاسية إما لأنه كان أكمل ولايتين رئاسيتين متتاليتين، عندما دعم خاتمي، أو لأن مجلس صيانة الدستور رفض ترشحه للانتخابات الرئاسية عام 2013 مما دفعه لدعم الرئيس الحالي روحاني. الأهم أنه كان لرفسنجاني دوره المهم، وربما الحاسم، في دعم اختيار المرشد علي خامنئي لخلافة الخميني بعد وفاة الأخير في 3 حزيران (يونيو) 1989.

على الجانب الآخر، وضمن المواقف التي يمكن أن نطلق عليها «مبدئية» لرفسنجاني، دعمه ترشح مير حسين موسوي للانتخابات الرئاسية في مواجهة محمود أحمدي نجاد في صيف عام 2009، ورفضه نتائجها واتهامه التيارات المحافظة المسيطرة على كل مفاصل الدولة آنذاك، والمؤيدة لأحمدي نجاد، بتزويرها، وهو ما دفع ثمنه لاحقاً بخروجه من «مجلس الخبراء» عام 2011.

بصفة عامة، نجح رفسنجاني في معظم فترات حياته السياسية أن يجعل الآخرين داخل إيران وخارجها، خصوصاً في الغرب وفي الوطن العربي، ينظرون إليه باعتباره معتدلاً، والأقرب إلى الواقع أنه اتصف بالبراغماتية، وهو ما يمكن رؤيته في الكثير من المواقف التي تبناها والسياسات التي قادها أو روج لها. 

كما يمكن وصفه بأنه صاحب توجهات إصلاحية من منظور يمكن وصفه بالليبرالية، خصوصاً على الصعيد الاقتصادي، وأحياناً أخرى على الصعيد الثقافي، وإن لم يكن على الصعيد السياسي، وحاول ترجمة هذه التوجهات إلى واقع خلال فترتي ولايتيه الرئاسيتين بين عامي 1989 و1997، إلا أنها توجهات جوبهت بانتقادات حادة، بما في ذلك أحياناً من قبل المرشد الحالي علي خامنئي ودوائر أخرى، كما وضعته هذه التوجهات موضع الاتهام من جانب خصومه بأن سعيه للدفع بسياسات «التحرير» الاقتصادي يهدف إلى تحقيق مكاسب تجارية له ولأسرته، خصوصاً من خلال الانفتاح الاقتصادي على الغرب.

أما النقطة الأخرى التي لا تقل أهمية، فتتصل باعتبار البعض أن رفسنجاني كان «الرجل الرئيس للتقارب مع الغرب» في الدوائر العليا من الحكم الإيراني، فالثابت أنه كان من الذين لعبوا دوراً لفتح صفحة جديدة مع ادارة الرئيس الجمهوري الراحل رونالد ريغان في كانون الثاني (يناير) 1981 عبر إنهاء أزمة الرهائن الأميركيين الذين كانوا محتجزين في مقر السفارة الأميركية في طهران منذ تشرين الثاني (نوفمبر) 1979. 

كما أن الأصابع أشارت إلى دور أكبر له في ما عرف بفضيحة «إيران/كونترا»، وهي الصفقة السرية لبيع أسلحة أميركية لإيران خلال حربها مع العراق وتوجيه عوائد هذه المبيعات بواسطة الاستخبارات المركزية الأميركية لتمويل متمردي «الكونترا» المناهضين لحكم جبهة «الساندينيستا» في نيكاراغوا، حين رفض الكونغرس الأميركي تمويل الولايات المتحدة هؤلاء المتمردين. 
كما تردد الكثير عن سعي رفسنجاني لدى الخميني من دون نجاح لتخفيف حدة لهجته المعادية للولايات المتحدة بغرض التمكن من تحقيق اختراق نوعي في العلاقة بين البلدين. كما سعى في مراحل تالية لجس النبض في شأن إطلاق مبادرات لتحسين العلاقات مع الغرب عموماً، وواشنطن خصوصاً، ولكن توازنات القوى الداخلية ومواقف الأطراف الأخرى في إيران، وردود الفعل الغربية والأميركية، وربما حسابات شخصية، حالت دون الانطلاق في هذا الاتجاه.

أما عن مواقفه إزاء المنطقة العربية ودولها وقياداتها، فقد سبقت الإشارة إلى تواجده في لبنان وعلاقاته الوثيقة مع قيادات منظمة التحرير الفلسطينية وكذلك علاقته مع الإمام الشيعي موسى الصدر، وما تردد عن دوره في تطوير أطر تنظيمية لجمع شمل شيعة لبنان، وهو ما ساهم لاحقاً في تأسيس حركة «المحرومين» بزعامة الصدر، وكذلك توظيفه لعلاقاته الفلسطينية لتوفير التدريب المسلح للعديد من الكوادر الإيرانية الشابة الموالية للثورة، والتي كان لبعضها دورها البارز في ما بعد على ساحة الأحداث الإيرانية. 

وفي سنوات توليه منصب رئاسة «مجلس الشورى»، كان أحد من نسب لهم التأثير على الخميني لإقناعه باتخاذ قرار بإنهاء الحرب مع العراق، وإن كان المؤكد أن دافع رفسنجاني لتبني هذا الموقف كان اعتبار ذلك يخدم المصالح الوطنية الإيرانية. وعلى مدار سنوات توليه رئاسة الجمهورية، شهدت سياسات إيران الخارجية درجة من التحسن في علاقاتها مع الدول الخليجية، وفي مقدمها السعودية.

وعلى الصعيد الداخلي منحت رئاسة رفسنجاني مجلس الشورى لسنوات طويلة في المرحلة الأولى لتأسيسه الفرصة لصياغة العديد من قواعد اللعبة، سواء داخل البرلمان أو في التعامل بينه وبين سلطات الدولة الأخرى، كما أنه بعد انتهاء الحرب الإيرانية- العراقية، كان له دوره المحوري، مع خامنئي، في تعبئة الدعم لتعديلات دستور 1979، التي مهدت الطريق لاستمرار المؤسسات التي أرساها الخميني. 

وفي كثير من الأحيان، حاول رفسنجاني لعب دور الوسيط بين أطراف إيرانية متنازعة ومحاولة التوصل إلى أرضية مشتركة بينها، وأثبت أنه أقوى من أي مؤسسة أو حزب، فلم يؤثر في شعبيته حل «الحزب الجمهوري الإسلامي»، الذي ضم مؤيدي وأتباع الخميني بعد انتصار الثورة. 

وإن كان رفسنجاني دفع، سواء شخصياً أو عبر ابنته فائزة أو ابنه مهدي، ثمن مواقفه عبر الاستبعاد عن مناصب سياسية، أو حتى السجن لأبنائه، فقد كانت لديه قدرة خارقة على العودة مجدداً إلى تصدر المشهد السياسي، مما يدل على مهارات وصفها البعض بـ «الفطرية» لديه، وكان آخرها انتخابه في مطلع عام 2016 في عضوية المجلس المنوط به اختيار خليفة المرشد الحالي.
ليس من المبالغة القول أن رفسنجاني ظل لعقود يمثل الرقم الصعب في السياسة الإيرانية، تجاه الداخل أو الخارج بعد الثورة، وبالتالي ستكون لغيابه انعكاسات على المعادلات السياسية، وإن بدرجات متفاوتة.


* كاتب مصري