محمد السعيد إدريس

أكدت أحداث وتطورات الأشهر الثلاثة الماضية مدى الترابط بين صراعات العراق وسوريا، وهي الآن تعود لتؤكد أيضاً مدى الترابط بين المستقبل السوري والمستقبل العراقي، وأن الانفراج أو التأزيم في أحدهما ينعكس مباشرة على الآخر. أكبر دليل على ذلك التحولات الدرامية التي حدثت، والتي تحدث في الموقف التركي إزاء سوريا والعراق.

فعندما واجهت تركيا تحديات وتعقيدات على مشروعها، أو على أقل تقدير، على طموحاتها في سوريا، بعد التدخل الروسي المكثف إلى جانب النظام السوري، وبعد الخذلان الأمريكي للحليف التركي، ودعم الميليشيات الكردية السورية، اتجهت تركيا نحو العراق، وأصرت على توسيع وجودها العسكري في «بعشيقة»، والمشاركة في الحرب ضد «داعش» في الموصل رغم أنف البرلمان العراقي، والحكومة العراقية. وقتها خرج الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن الأعراف الدبلوماسية، وشن هجوماً شرساً، وشخصياً على حيدر العبادي رئيس الحكومة العراقية، وأمام حضور كبير من المشاركين في القمة التاسعة للمجلس الإسلامي في إسطنبول (11/10/2016)، وخاطبه بلغة انفعالية غير مسبوقة قائلاً له، وبصوت عال: «من أنت.. اعرف حجمك.. أنت لست نظيري.. عليك أن تعلم أننا سنفعل ما نريد أن نفعله». 

من تابع هذه التطورات كان من الصعب عليه أن يتصور، ولو للحظة، أن يعود التفاهم والوئام مجدداً بين أردوغان وحيدر العبادي، وأن يكون أردوغان، بعد أقل من ثلاثة أشهر على هذا الصدام غير المسبوق، أبرز الداعمين لمشروع «التسوية الوطنية» الذي أعده «التحالف الوطني» في العراق بزعامة رئيسه عمار الحكيم، رئيس «المجلس الإسلامي الأعلى»، والذي يبحث في مستقبل العراق بعد التخلص من تنظيم «داعش»، مقابل مكاسب سياسية وأمنية واقتصادية مع العراق، من ناحية، وانسجاماً مع تنسيق تركي- إيراني في سوريا عنوانه «التسوية في سوريا» بعد معارك حلب التي تكشفت معالمها في «إعلان موسكو» الثلاثي (20/12/2016) بين وزراء خارجية ودفاع روسيا وتركيا وإيران.

ولكي يتبين حجم ومدى عمق التحول في الموقف التركي يجب الإشارة إلى موقفين مهمين بخصوص وثيقة «التسوية الوطنية» تلك. الموقف الأول يتعلق بالدعم الإيراني القوي لهذه الوثيقة ولتحرك «التحالف الوطني» العراقي، وزعيمه عمار الحكيم للحصول على دعم كل القوى والمكونات السياسية والاجتماعية العراقية لهذه الوثيقة. حيث زار وفد من «التحالف الوطني» طهران والتقى بالرئيس الإيراني حسن روحاني، ورئيس مجلس الشورى علي لاريجاني، ووزير الخارجية محمد جواد ظريف، وحصل على دعم إيراني قوي أكد مدى حرص إيران على استثمار اللحظة العراقية الراهنة لتثبيت النفوذ الإيراني برعايته لمشروع مستقبل العراق بعد معركة تحرير الموصل، بحيث تكون إيران هي وحدها مهندس صياغة هذا المستقبل، أما الموقف الثاني فهو انقسام القوى السياسية الداخلية في العراق حول هذه الوثيقة، وامتداد هذا الانقسام إلى مكونات التحالف الوطني، خاصة مقتدى الصدر، بل وتعمد المرجع الشيعي الأعلى السيد علي السيستاني التزام سياسة «النأي بالنفس» عن هذه الوثيقة.

تركيا لم تكن بعيدة عن هذين الموقفين، ورغم ذلك شاءت أن تتقارب مع بغداد، وأن تدخل نفسها مجدداً طرفاً في معادلات العراق السياسية، في موقف ينسجم مع تحولات أنقرة الأخيرة بالتقارب مع روسيا وإيران. وكانت بداية التحرك التركي اتصال هاتفي بين رئيس الحكومة التركية بن علي يلدريم مع حيدر العبادي رئيس الحكومة العراقية. وفي هذا الاتصال حرص يلدريم على الإشادة بنجاحات القوات العراقية في الموصل، كما تعهد بسحب القوات التركية من بعشيقة بعد انتهاء معركة تحرير الموصل، وشدد على ضرورة اجتماع «اللجنة الاستراتيجية العليا» بين البلدين في بغداد، مؤكداً أن بلاده «تسعى إلى إدامة العلاقات الاقتصادية والتجارية مع العراق».

اتصال غير متوقع، لكن الأهم منه، هو اتصال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان برئيس حكومة العراق حيدر العبادي (30/12/2016) جرى خلاله استعراض «الجهود العراقية لتحرير الموصل، والاستعداد لمرحلة إعادة الإعمار»، حيث أكد أردوغان رغبة بلاده «الجادة» في جهود الإعمار والاستثمار والمشاريع المشتركة، مؤكداً «وضع جميع إمكانات بلاده مع العراق في حربه على «داعش»، وبعد هذا الاتصال جاءت زيارة رئيس الحكومة التركية لبغداد، وهي الزيارة التي جدد فيها ما سبق أن أبلغ به حيدر العبادي في اتصالهما الهاتفي، وتم التوصل إلى اتفاق من تسع نقاط تضمن تبني البلدين «تحقيق الأمن والاستقرار المتبادل، ومكافحة الإرهاب والتعاون في جميع المجالات».

الذين تابعوا هذه الزيارة خرجوا بنتيجة مضمونها أن أنقرة باتت مستعدة لتحطيم «جبل الجليد» بينها وبين بغداد، وحتى لتصفير الأزمات، والقيام بدور إيجابي في إعادة ترتيب الأوضاع السياسية الداخلية في العراق، لدرجة استعداد أنقرة للضغط على «القوى السُنية» الحليفة لدعم مشروع «التسوية الوطنية» وعدم الربط بين دعمه وبين إلغاء قانون «الحشد الشعبي» الذي كانت قد وضعته شرطاً للانخراط في مسار هذا المشروع.

مؤشرات تقول إن هناك مقايضات تحدث في العراق من أبرز أطرافها إيران والعراق، ترتكز على تعاون إيراني- تركي ضد الخطر الكردي المشترك في العراق وسوريا، وتفاهمات التسوية السورية، وهي مقايضات ربما تلعب دوراً بارزاً في إنجاح «التسوية العراقية».