عبداالله المدني

لعل الحدث السياسي الأبرز الذي استأثر باستغراب عرب التواصل الاجتماعي مؤخرًا هو انتخاب سيدة مسلمة محجبة كرئيسة لبلد آسيوي هو الوحيد الذي استطاع أن يقفز إلى صفوف بلدان العالم الأول حتى الآن، ونعني بها سنغافورة. بل أن استغرابهم زاد لما علموا أن هذه السيدة (حليمة يعقوب) البالغة من العمر 63 عامًا هي من أب ذي أصول هندية وأم ذي أصول مالاوية ومتزوجة من مواطن ذي أصول عربية يمنية يدعى محمد عبدالله. وكان لهم أن يندهشوا طالما أن أقصى منصب يمكن أن تصل إليه مواطناتهم العربيات هو منصب وزيرة الشؤون الإجتماعية أو وزيرة رعاية الأمومة والطفل، دعك من وصول الأقليات إلى أي منصب حكومي رفيع.


غير أن الحدث بالنسبة لغير العرب ممن يعرفون سنغافورة وتاريخها ومكوناتها العرقية ونظامها السياسي لم يكن باعثًا على الدهشة إطلاقا. فالأمر مجرد تحصيل حاصل لطريق العلمانية الذي سارت عليه سنغافورة منذ طلاقها من الاتحاد الماليزي في عام 1965 وتمسكت به كضمانة وحيدة لوحدتها الوطنية. فلولا هذا الخيار لتشظت أطيافها العرقية والثقافية المتنوعة ولما أمكن لقائدها الفذ وصانع أمجادها «لي كوان يو» أن يحقق وينجز ما عجزت الأوطان الآسيوية المجاورة عن تحقيقه من أمن وسلام ورفاهية ورخاء لنحو 5.5 ملايين من البشر يعيشون في حيز جغرافي لا تتعدى مساحته 720 كلم مربعا.
ومثلما أدرك «كوان يو» مبكرًا أن لا مستقبل لبلاده ضمن اتحاد ماليزي يهيمن عليه العرق المالاوي، فاحتج وحذر إلى أن ضاق زعماء ماليزيا به ذرعا فقرروا طرد بلاده من إتحادهم، ليشمر الرجل عن سواعده وهو يبكي من أجل إقامة كيان يفوق كيان من أذلوه، فإن خلفاءه أدركوا مبكرًا أن استمرارية النموذج السنغافوري ونهضته لا يتأتيان إلا بإتاحة الفرصة أمام كل المواطنين للوصول إلى قيادة البلاد دون تمييز ثقافي أو عرقي.
لقد كان اختيار رئيس البلاد يتم من قبل البرلمان المنتخب، لكن هذا تغير منذ عام 1991 حينما تقرر إجراء تعديل دستوري يتيح اختياره في إنتخابات شعبية مباشرة. غير أن شروط الوصول إلى المنصب في سنغافورة بقيت على حالها تحكمها مواد دستورية أهمها: المواطنة، عدم التمتع بجنسية أجنبية، خلو صحيفة السوابق من الاحكام الجنائية وقضايا الافلاس، سن الـ45 فما فوق، الاقامة داخل البلاد، الادراك والعقل السليم، عدم شغل مناصب في قطاع المال والاعمال والشركات الخاصة، وجود الاسم في سجلات المشاركين في الانتخابات العامة، عدم الانتماء للأحزاب السياسية، علاوة على تولي منصب رسمي لمدة لا تقل عن 3 سنوات. كل هذه الشروط انطبقت على حليمة يعقوب، ولم تنطبق على منافسيها بدقة، ففازت بالتزكية، لتصبح أول سيدة تتولى رئاسة الجمهورية الاندونيسية من بعد 8 رؤساء ذكور منذ عام 1965.
وبطبيعة الحال كان هناك من أبدى غضبه من هذه النتيجة. ومعظم هؤلاء من ذوي العرق الصيني ممن استكثروا أن يؤول منصب الرئاسة إلى شخص من ذوي الأصول المالاوية لأول مرة منذ العام 1970، بل ممن اتهموا حكومة رئيس الوزراء «لي هسينغ لونغ» بالتخطيط المتعمد للإتيان بحليمة يعقوب على حساب مرشحهم الأبرز «تان تشينغ بوك» عبر الإعلان المسبق عن اقتصار المشاركين في انتخابات هذا العام على ذوي العرق المالاوي.
كما كان هناك من امتعض واحتج واتهم الحكومة بالتشدد في تطبيق معايير الترشح وذلك على خلفية استبعاد المرشحين «فريد خان» و«محمد صالح ماريكان» بسبب عدم استيفائهما لشروط دخول السباق الرئاسي. ولهذا لوحظ في خطاب يعقوب بُعيد أدائها اليمين نبرة تهدئة وتطمين من أنها ستكون رئيسة لكل السنغافوريين وأنها تتطلع إلى اليوم الذي يتحرر فيه السنغافوريون نهائيًا من الحديث حول الأصول العرقية لقادتهم.
يعتقد الكثيرون أنه طالما تنتهج سنغافورة ديمقراطية ويستمنسر البريطانية فإن منصب الرئاسة فيها منصب شرفي لا يقدم ولا يؤخر، وأنه شبيه بمنصب ملكة المملكة المتحدة. غير أن الحقيقة هي أنه بموجب التعديلات الدستورية لعام 1991 صار لصاحب هذا المنصب صلاحيات مهمة لجهة إقرار التعيينات في الوظائف العامة الرئيسية أو رفضها، والحد من سلطة الحكومة في السحب من الاحتياطي، وممارسة الرقابة على تطبيق قانون الأمن الداخلي ومكتب التحقيقات في الفساد، وإعطاء الموافقة أو حجبها عن ميزانيات المجالس التشريعية والشركات الحكومية، وممارسة السلطة التقديرية الشخصية في ظروف معينة حيال القوانين الصادرة من البرلمان.
لكن من هي حليمة يعقوب التي وصفتها الزميلة الدكتورة إنتصار البناء بـ «حجاب فوق رأس المعجزة الاقتصادية»؟
إنها الابنة الصغرى لعائلة كان ربها يعمل ناطورًا فيما كانت زوجته تساعده على أعباء الحياة من خلال بسطة للمأكولات الشعبية على قارعة الطريق. تقول حليمة أنها كانت تمضي ساعات ما بعد الدوام المدرسي، منذ أن كانت في العاشرة، في مساعدة والدتها كنسًا وغسيلاً وتنظيفًا وخدمة للزبائن، خصوصًا وأن والدها كان وقتذاك قد رحل عن الدنيا. وتضيف أن هذا العمل لئن كان متعبا ومملا وباعثا على الحزن بسبب مناظر الفقراء ومحدودي الدخل، إلا أنه كان من جهة اخرى حافزًا على التصميم والارادة من أجل تغيير الحال الى الافضل. وتتذكر كيف انها كادت تـُطرد من مدرستها الثانوية في الصف الثاني عقابا لها على تأخرها في الحضور بسبب انشغالها بمساعدة أمها منذ ساعات الفجر الاولى.
تخرجت حليمة من جامعة سنغافورة حاملة ليسانس القانون، ثم نالت درجة الماجستير في القانون من جامعة سنغافورة الوطنية. أما مسيرتها العملية فبدأت في عام 1978 من خلال العمل النقابي، الأمر الذي جعل لاسمها صدى يتردد في كواليس الحركة العمالية فاختيرت كأمينة عامة للحركة. وفي عام 2001 دخلت المعترك السياسي إستجابة لطلب رئيس الحكومة السابق «غوه تشوك تونغ»، حيث شاركت في الانتخابات العامة ونالت مقعدًا في البرلمان باسم حزب العمال الحاكم. وبصفتها نائبة راحت ترتقي السلالم حتى وصلت إلى منصب رئيس البرلمان في عام 2013 خلفا لرئيسه السابق الذي اضطر للاستقالة بسبب علاقة غير شرعية، لكنها كانت قد شغلت قبل ذلك منصب وزيرة الدولة لشؤون وزارة تنمية المجتمع والشباب والرياضة. وما بين هذا وذاك عـُرفتْ حليمة بدفاعها المستميت عن حقوق المرأة السنغافورية، ولاسيما المسلمات منهن، وقيامها بحملات لصالح المعاقين والمرضى النفسيين، بدعم من شريك حياتها ووالد أطفالها الخمسة.