عبد الإله بلقزيز

رسمت العولمة وزحف قيمها الثقافية حدوداً متواضعة لما يمكن أن تضطلع به الأسرة والمدرسة من أدوار في التنشئة الاجتماعية والتكوين والتوجيه. زوحمت الأخيرتان، على نحو لا سابق له في الحدة، من أدوات وأجهزة ومؤسسات فعلت الثورة التكنولوجية والمعلوماتية الحديثة أدوارها وضاعفت من حجم تأثيراتها في هندسة المجال الاجتماعي، كما في إنتاج منظومات القيم، وصناعة الأفكار، وقولبة الأمزجة، وتنميط المعايير والأذواق. 


وفيما كانت مؤسسات التنشئة الاجتماعية والتكوين مجردةً من أسباب القوة، أو من أسباب حيازة موارد التنافس، مكتفيةً بما لديها من موارد ضعيفة وتقليدية (بمعايير العولمة)، تمتعت آليات العولمة الثقافية بموارد (تكنولوجية وعلمية) هائلة: عالية المفعول، بل شديدة الفتك بالنظام التقليدي -الثقافي والقيمي- الموروث الذي تستهدفه وتقع عليه. لقد خرجت (الآليات تلك) من رحم ثورة هائلة في ميداني العلم والتكنولوجيا، في الثلث الأخير من القرن العشرين، سرعان ما انتقل تسخير ثمراتها ونتائجها من المجال العسكري -الذي تلقاها ابتداءً- ثم من المجال الاقتصادي (الصناعي والزراعي) إلى المجال الإعلامي والمعلوماتي بما هو الفضاء الأرحب لاشتغال كل استراتيجية تروم السيطرة على المجتمعات والثقافات والعقول والمخاييل، من نوع الاستراتيجيات الثقافية الجديدة لقوى العولمة ولمراكزها الكبرى على وجه الخصوص.


لم تكن المدارس والجامعات ودور النشر ودور الصحافة والبعثات التعليمية والمراكز الثقافية الأجنبية في بلدان الجنوب، ومنها بلدان الوطن العربي، هي الأدوات الثقافية التي توسلتها قوى العولمة لإنفاذ سلطة قيمها الثقافية في البلدان الموطوءة ثقافياً -على نحو ما كانت حال السيطرة الثقافية الغربية في الحقبة ما بعد الكولونيالية (نعني في حقبة تبعية الدول الوطنية في الجنوب للمتروﭙولات الغربية)- وإنما كانت الأدوات الجديدة، التي امتطت العولمة صهوتها ثقافياً، إعلاميةً ومعلوماتية بالدرجة الأولى؛ وقد مثلتها مؤسسات الإعلام الفضائي والشبكة العنكبوتية للمعلومات، وقد انتشرت في العالم انتشار النار في الهشيم، وباتت توفر لاستراتيجيات السيطرة الثقافية ما لم تكن تقوى على توفير نظائرها من الإمكانيات أي أدوات أخرى في الماضي.


وهكذا مع اتساع نطاق إنشاء محطات إعلامية فضائية، عابرة للحدود، والتوسع في إنتاج برامج الحاسوب المعلوماتية والثقافية وفي تسويقها (بالإنجليزية، ابتداءً، ثم بلغات أهل الأرض كافة تالياً)، أصبح النظام السمعي-البصري والمعلوماتي هو النظام الوظيفي الأساس لاستراتيجيات السيطرة الثقافية في العالم (وعلى العالم). ولقد زاد من قدرة هذا النظام على ممارسة مستويات عالية من التأثير في الجمهور الذي يخاطبه، بالمادة الثقافية المرسلة، أن اقتناء أجهزته من أدوات استقبال بث الأقمار الصناعية أو من حواسيب بات في مكن شرائح واسعة من المجتمعات (والقدرة على الاقتناء تلك لم تكن ناجمة من تحسن ما، مفترض، في القدرة الشرائية للناس، وللفئات الاجتماعية الفقيرة خاصةً، وإنما هي إلى تأثير نفوذ القيم الاستهلاكية أقرب). ثم ما لبث أن أفضى إدخال النظام الإعلامي- المعلوماتي في برامج الهواتف المحمولة إلى حيث تحول إلى حامل تقاني لإنتاج ثقافة جماهيرية!


دخلت ثقافة العولمة إلى عقر كل دار في العالم من طريق هذه الوسائط الجديدة، وبات في وسعها أن تجد فائضاً من حاجتها إلى مستهلكين تتزايد أعدادهم كل يوم، وخاصةً من فئات الأطفال والمراهقين والشباب. حتى الذين لم يلجوا مدارس، وهم كثر في بلدان الجنوب، أمسوا يتصلون بمصادر المعلومات وبمنظومات أفكار لم تنجبها مجتمعاتهم وبيئاتهم الثقافية ولا ألفوها. وساعد على ذلك أن المواد المعروضة في الوسائط تلك -سمعية كانت أو بصرية- عرضت بلغات خلق الله جميعاً بغية مضاعفة أسباب التأثير. أما المادة البصرية ففي غناء، عادةً، عن المصاحبة اللغوية، بل وآثارها في المتلقي تكون أشد من المادة المكتوبة بل، حتى، من المادة السمعية المجردة. لذلك أطلقنا على ثقافة العولمة، أو الثقافة المحمولة في ركاب العولمة وأدواتها الإعلامية والإلكترونية، اسم الثقافة الجماهيرية، ونضيف، للتدقيق، الثقافة الجماهيرية العالمية: التي من سماتها توليد الاصطفاف الأفقي لدى جمهور المتلقين وتوحيد فعل تلقيهم بمعزل عما يقوم بينهم من تفاوت في مستوى المعرفة أو في الإدراك، ومن اختلاف في اللغات والثقافات والأجناس. وهذه غير الثقافة الشعبية، التي يخلط كثيرون بينها وبين الثقافة الجماهيرية؛ لأن الثقافة الشعبية هي مجموع الإبداعات والرموز -الشفهية والحركية والمرسومة- التي ينتجها شعب ما، وهي ما تطلق عليها الأنثروبولوجيا اسم الثقافة البرية (Culture Sauvage)، وهذه، أيضاً، غير الثقافة العالمة (Culture Savante )؛ ثقافة النخب أو الثقافة الوطنية (القومية)، لأنها مدونة، غير محكية، وقائمة على نظم معرفية وعلمية مقوعدة يحتل فيها التقليد الكتابي ( نسبةً إلى الكتابة) مركزاً رئيسياً ومميزاً. 
أمكن قوى العولمة، بهذا الزحف الثقافي الهائل، أن تستبيح آخر حصون «الشخصية الوطنية»، الذي هو الثقافة، بعد أن استباحت العولمة المادية الاقتصاد والسياسة والأمن والسيادة الوطنية، وأجبرت العالم (غير الغربي) على أن ينضوي تحت أحكام قوانينها الجائرة. وهي أنجزت، من قناة الثقافة والاكتساح الثقافي، وبأقل كلفة مادية، ما لم تنجزه من قناة السياسة والحرب والهيمنة الاقتصادية؛ فلقد أدت الفضائيات الإعلامية الكبرى وشبكات الإنترنت من الأدوار والمهمات الاستراتيجية ما كانت تؤديه الأساطيل والبوارج الحربية والجيوش في زمن غير بعيد، ولكن على نحو مخملي وقفازات من حرير! لذلك قلنا، ونقول، إن المعركة من أجل صون الأمن الثقافي - وهي اليوم عسيرة وقواها غير متكافئة- هي آخر معركة تبقت للدولة والمجتمع، على السواء، لحفظ البقاء في عالم عقيدته القوة.