باسم الجسر

 إقامة دولة كردية ذات كيان مستقل ليس مشروعاً حديثاً، أو مضاعفة من مضاعفات الحروب التي لم تتوقف داخل العراق أو عليه، بل يعود إلى أكثر من قرن إلى الوراء، ولم يتحقق لمعارضة أربع دول شرق أوسطية له، بالإضافة إلى الدول الكبرى التي تلاعبت بمصير شعوب ودول هذه المنطقة من العالم...

غير أن هذا الاستفتاء الأخير على الاستقلال الكردي، وفي الظروف الراهنة، يرتدي، هذه المرة، أبعاداً بل خطورة خاصة لم ترافق المحاولات الاستقلالية السابقة؛ ذلك أن ما تعانيه المنطقة من حروب أهلية ومداخلات دولية، اليوم، بات متعدد الأطراف والأبعاد، ويخرج بالتالي عن كونه قضية انفصال مكون عرقي أو ديني أو حضاري عن «الدولة - الأم»، بل أصبح سبباً لتوليد معادلات سياسية تاريخية وجغرافية مولدة بدورها لصراعات وحروب مستقبلية.

قليلة جداً هي الدول التي يتألف شعبها من عرق واحد، أو جميع أبنائها من أتباع دين واحد، أو يتكلمون لغة واحدة، ففي الهند أتباع أديان عدة وأبناؤها يتكلمون أكثر من خمسين لغة، والشعب الأميركي تألف من خليط من المهاجرين من كل دول العالم، كذلك معظم شعوب دول أميركا الجنوبية، ولكن هذه الدول نجحت في توحيد شعوبها عن طريق الديمقرطية والمواطنة. ورغم ذلك لم تتوقف حركات الانفصال داخل هذه الدول، فبالأمس القريب انفصلت المجر عن النمسا، والدول البلقانية عن السلطنة العثمانية، وفُرطت يوغوسلافيا بعد وفاة تيتو إلى عدة دول مستقلة، وانفصل جنوب السودان عن شماله، وانفصلت سوريا عن مصر بعد أربع سنوات من توحدهما، وانفصل جنوب اليمن عن شماله ثم عاد للتوحد بالقوة. وفي أكثر دول العالم استقراراً وديمقراطية هناك حركات انفصال جديدة (كاتالونيا، كورسيكا).
من هنا يمكن القول بأن اندفاع أو استعجال حكام كردستان العراق في القفز من شبه الحكم الذاتي إلى الاستقلال، ليس إلا استمراراً في نضال الشعب الكردي من أجل إقامة دولة مستقلة، ولكن إجراء هذا الاستفتاء، رغم معرفة العاملين له بأن هناك أربع دول إقليمية، حيث يتوزع الشعب الكردي، تعارض قيام دولة كردية على حدود وأراضي إحداها، بالإضافة إلى معارضة الدول الكبرى لهذا الاستفتاء في الظروف الراهنة.
دولة واحدة أيدت الاستفتاء وقيام دولة كردية، وهي إسرائيل. وليس في الأمر غرابة، فإسرائيل منذ انزراعها في المنطقة، تلعب بورقة الأقليات الدينية والعرقية في وجه أي عقيدة وطنية أو قومية أو دينية توحد كلمة أبناء الدول المحيطة بها. وقد يأتي يوم تكشف فيه أسرار الدور الإسرائيلي في إيهان الوحدة الوطنية في الدول العربية، وإثارة النعرات الدينية والمذهبية فيها، بل وإشعال الأزمات والخلافات بين حكامها.
لقد فتح الاستفتاء الكردي الباب على أزمة خطيرة قد تجر إلى الاحتكام إلى السلاح. وقد تنجح الدول الكبرى - وهي متفقة على تلافي الاصطدام وإجلاس حكام أربيل وحكام بغداد إلى طاولة المفاوضات، وإلى تأجيل أي استحقاق ريثما تحسم الحرب على تنظيم داعش. ولكن هل سيتخلى الأكراد عن المطالبة والعمل على إقامة دولة مستقلة؟ إنهم يتمتعون اليوم بحكم ذاتي واسع يكاد يكون شبه استقلال. وهم يعرفون أن الدول الأربع التي تعارض إقامة دولة كردية على قسم من أراضيها، ليس من السهل عليها القبول بذلك. فهل يكون هذا الاستفتاء ورقة في يد أربيل للحصول على مزيد من الحكم الذاتي أم باباً جديداً من الصراعات في المنطقة قد فتح؟
لقد دعا الحكم الذاتي الكردي الانفصالي، حكومة بغداد، للجلوس إلى طاولة المفاوضات لمعالجة هذه الأزمة التي أحدثها الاستفتاء ونتائجه. ولقد أبقت بغداد وأنقرة باب المفاوضات مفتوحاً رغم معارضتهما السياسية الصريحة والعالية النبرة، لا سيما أنقرة التي كانت على علاقة حسنة مع نظام الحكم في أربيل وتعاون اقتصادي مفيد للبلدين. ومن البديهي أن معارضة الدول الكبرى والمجتمع الدولي للانفصال الكردي عن الكيان العراقي سوف يؤثر على الانفصاليين، ويدفعهم إلى التروي في تنفيذه، ويحملهم على الجلوس إلى طاولة المفاوضات مع حكومة بغداد.
إن الأولوية الدولية والإقليمية لا تزال القضاء على «داعش» والتنظيمات الإرهابية المشابهة له، ولذلك فإن هذا الاستفتاء لن يشعل حرباً جديدة في المنطقة، وإن كان محرجاً لجميع الدول والقوى المشاركة في هذه الحرب.