رستم محمود 

يظهر في الصراع السياسي الراهن، كأنّ العراق يضم جماعتين أهليتين سياسيتين فحسب، هما الشيعة والأكراد. إذ لا يظهر للعرب السنة أي موقف سياسي متمايز عن هذين الخطين وخياراتها. يحدث ذلك، على رغم تمايز مصالح الجماعة الأهلية السنية وقواها السياسية عن التي للطرفين الشيعي والكرد.

في مسألة إجراء الاستفتاء الكردي الأخيرة، وما قد يليها من محاولة للاستقلال، فإن لدى القوى السياسية السنية، انعكاس لإستراتيجية الطرفين السياسيين الآخرين.

القوى السنية المركزية في العاصمة بغداد، بكامل طيفها عدا بعض الشخصيات السياسية المدنية، متماهية تماماً مع إستراتيجية التيارات الشيعية المركزية. فقد وافقت القوى السنية على جميع القرارات والتوجيهات التي صدرت عن البرلمان والحكومة المركزية في شأن الأكراد وإقليم كردستان، كما أنها تصرّح بأنها ستطابق هذه القوى الشيعية مستقبلاً؛ فيما لو اتخذت إجراءات أكثر صرامة. المشكلة ليست فقط أن الطرف السني لم يتمايز في هذه الخطوات عن نظيره الشيعي، بل أساساً لم يساهم في بناء إستراتيجية ورد فعل الحكومة والبرلمان المركزي على الاستفتاء الكردي، فكل شيء أقرّ من القوى الشيعية الرئيسية الثلاث، ولم تفعل الأحزاب السنية سوى الموافقة عليه، وصارت تروّج للأمر وكأنها من خط هذه الإستراتيجية.

على النقيض تماماً، فإن ملايين العرب السنة المهجّرين من مناطقهم المدمرة إلى إقليم كردستان العراق، وتعبيراتهم السياسية والاجتماعية والمدنية، أظهروا تفاهماً وتعاطفاً أكثر مع المسعى الكردي الجديد. ليس فقط لأنهم ذاقوا طوال السنوات الأخيرة مرارة تحول النِظام السياسي العراقي نحو السلطوية الطائفية، بل أيضاً لأن أحوالهم ستتدهور في حال حدوث صِدامٍ عسكري بين بغداد وإقليم كردستان العراق، أو حتى لو اختصرت الإجراءات العقابية على الحصار الاقتصادي والجوي ومنع المساعدات.

بين الحالين يعاني العرب السنة في المناطق المتنازع عليها من أسوأ أشكال الحيرة بين الطرفين. فهم يعرفون أن مصيرهم سيكون مطابقاً لأحوال ذويهم في بقية مناطق المثلث السني، فيما لو حاولت السلطة المركزية الهيمنة على مناطقهم بالقوة العسكرية. أما لو وقفوا إلى جانب المسعى الكردي، فإن الأمر يعني ببساطة أنهم أصبحوا جزءاً من إقليم كردستان العراق، وبذا ينقطعون عن بيئتهم وامتدادها السكاني الجغرافي والسياسي.

على أن كل التوجّهات السياسية السنية قد تؤدي في شكل ميكانيكي إلى ما هو نقيضها تماماً، ولو بعد حين. فمسعى القوى السنية المركزي إلى أن تتماهى مع نظيرتها الشيعية، سيؤدي في شكلٍ طبيعي لأن يضعف الطرف الكردي في المعادلة الداخلية العراقية، وهو سيضاف الى نظيره السني المهمش بالأساس. وبهذا المعنى فإن العراق سيتحول إلى دولة محكومة من الشيعة، من دون الحاجة الى أي توافق مع أي طرف آخر، وبالذات السنة. غير بعيد عن هذا السياق، فإن تحطيم الأكراد سياسياً سيعني خضوع العراق كله سياسياً للنفوذ الإيراني، وهو أمرٌ لن يكون في مصلحة العرب السنة أولاً.

على أن القوى السنية المركزية نفسها، في ما إذا فعلت العكس، فهي ستخضع لابتزاز سياسي من الأطراف الشيعية، وستتهم بالمشاركة في التخطيط لتقسيم العراق. سيشكل ذلك العتبة التي تشرعن المزيد من تحطيمهم السياسي والفعلي. الآلية نفسها، وإن معكوسة، تصحّ على المهجرين العرب السنة في إقليم كردستان العراق، أو الذين يعيشون في المناطق المتنازع عليها.

ثمة انتخابات برلمانية عراقية في ربيع العام المقبل، حيث من المتوقع أن تزيد من شرخ المجتمع السياسي السني. فقوى الحشد الشعبي المحافظة على هيمنتها في غالبية مناطق السنّة، وبالذات على من بقي منهم في العاصمة بغداد، فإنها ستسعى إلى أن تصعد شخصيات سياسية سنية موالية لها فعلياً ومباشرة، لتتخلص من الحيز، ولو الضئيل، الذي كانت القوى السنية البرلمانية الحالية تسعى إلى أن تتمايز وتعترض فيه على سلطوية الأحزاب الشيعية.

من طرفهم فإن ملايين العرب المهجرين من العرب السنة، الذين دمرت بيئتهم السكانية ومكانتهم الرمزية، لو سمح لهم بالتصويت في مناطق هجرتهم كما هو متوقع، فإنهم سيصعدون قوى وشخصية معارضة جذرياً لمسعى الهيمنة على خياراتهم السياسية أو الإستراتيجية، التي تتقصّد تحويل العراق إلى جغرافيا طائفية تابعة لإيران.

بهذا المعنى، فإن التشظّي السنّي المجتمعي والمناطقي، سينتقل ليصبح سياسياً ومؤسساتياً في شكل واضح. ستكون للسنة كتلتان نيابيتان متباينتان، وسيحاول التيار الشيعي الحاكم منح حلفائه من السنة كل المواقع والمنافع المتحاصص عليها، شريطة أن ينشغلوا بالطرف السني المناهض لهم، وبذا ستختفي قضايا ومصالح وأحوال العرب السنة ضمن هذا الصراع البيني «المصطنع».

ليس في العراق اليوم شخصية أو تيار أو حزب سياسي واحد مجمع عليه من طيف اجتماعي عابر لهذا الاستقطاب، أو للاستقطاب الإقليمي والدولي النظير. فحال السنة العراقيين سياسياً نتيجة موضوعية لعدم التزام تركيا تعهدها في خلق توازنٍ مع إيران في المعادلة العراقية. كما أنهم يدفعون ثمن رفضهم المديد لواقع الدولة العراقية الجديدة، وبذا حصل التأخر في بناء نخبة سياسية وأخرى عسكرية وأمنية منخرطة في الدولة العراقية الجديدة.

على أن هذا المسار في التأخر السنّي، ترافق مع تسارع وتيرة نزوع الطرفين الشيعي والكردي لتقاسم السياسة ومناطق السيطرة الجغرافية والهيمنة السياسية، في وقتٍ كانت تتراجع أحوال العرب السنة إلى مزيد من الهشاشة في كل تلك التفاصيل، حتى أنهم صاروا يظهرون في القضية العراقية «الوجودية» الأخيرة وكأنهم غير موجودين سياسياً، وأغلب الظن أنهم سيدفعون ثمن ما ستستقر عليه التوازنات الجديدة.