راجح الخوري 

من كردستان إلى كاتالونيا، تتجاوز عمليات الاستفتاء على الاستقلال حدود المطالبة المزمنة بحق تقرير المصير ونيل الاستقلال، لتوقظ الأحلام التاريخية الكامنة عند أقليات ومجموعات كثيرة، ولتفتح الأبواب على طموحات مشابهة لدى هذه الإثنيات والأقليات، ويكفي أن نلقي نظرة بانورامية متفحصة على الخرائط السياسية في أوروبا، مثلاً، كما في بعض الدول المجاورة للعراق، كي نطرح السؤال مباشرة:


هل هذا زمن الانفصاليين؟ وهل يتحول استفتاء كردستان وكاتالونيا عدوى تصيب أقاليم أخرى؟ وهل سيصبح التصويت الطاغي لصالح الاستقلال وتقرير المصير، بمثابة خيط السبحة الذي سينقطع لتنفرط وحدة دول كثيرة، ما لم يتم التفاهم مثلاً على نوع من الحكم الذاتي المطلق لكن في إطار اتحادي مُتفاهَم عليه، أو على قيام نوع من الكونفيدراليات المتعاونة؟
استقلال كردستان قد يتحوّل نزعاً لـ«حجر الوسط» كما يقال، ما قد يهدد بفرط عقد العراق، حيث من المعروف أن الإيرانيين يضعون يدهم على الجنوب منذ زمن بعيد، وحيث أدّت سياسات الاضطهاد والتهميش التي مارسها نوري المالكي سابقاً ضد الوسط السني، إلى تعميق الضغائن التي يتولى «الحشد الشعبي» الآن النفخ في رمادها الملتهب.
واستقلال كردستان قد يتحوّل فالقاً تكون له هزّاته الارتدادية في تركيا، حيث بات عشرون مليوناً من الأكراد هناك ينظرون إلى كردستان بكثير من الإعجاب، وكذلك في إيران حيث تغلي مشاعر ثمانية ملايين كردي في مواجهة سياسة القمع والتنكيل التي يمارسها النظام الإيراني ضدّهم، أما في سوريا فليس مستبعداً أن تتطور خطة مناطق «خفض التوتر» لتؤسس لنظام لا مركزي موسّع في إطار من الفيدرالية، التي بدأ فلاديمير بوتين ينادي بها منذ اليوم الأول لدخوله سوريا نهاية سبتمبر (أيلول) من عام 2015.
في إسبانيا تبدو الصورة مشابهة تماماً؛ لكن مع فرق جوهري، ذلك أن 92 في المائة من أكراد العراق ذهبوا إلى صناديق الاقتراع وأيدوا الاستقلال، دون أن يقع جريح واحد، بينما أيد 90 في المائة من الكاتالونيين الاستقلال؛ لكن مع سقوط 850 جريحاً في صدامات دموية مع الشرطة التي كانت تتلقى تعليماتها من مدريد.
طبعاً ليس من الواضح كيف ستُترجَم حمّى التهديدات العراقية والتركية والإيرانية المتصاعدة ضد أربيل، وما إذا كانت المناورات العسكرية على بعد 250 متراً من حدود الإقليم ستؤدي أو تتحول انفجاراً عسكرياً، يشعل حرباً جديدة؛ إضافة إلى المعارك الدائرة ضد «داعش»، ولا من الواضح كيف سيترجم رجب طيب إردوغان الذي زار طهران يوم الأربعاء الماضي تلويحه بـ«تجويع الأكراد».
لكن الواضح أن أربيل تعمل على خطّين؛ فمن جهة تعمل على ترسيخ آليات الاستقلال عندما تدعو إلى انتخابات رئاسية وبرلمانية في أول نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، ومن جهة ثانية يعلن مسعود بارزاني أن «المجلس الأعلى للاستفتاء»، تحوّل الآن قيادة سياسية ستتولى الحوار مع بغداد والدول الأخرى، وفي السياق كان لافتاً قول خليل إبراهيم، عضو المجلس المذكور: «إن كردستان جزء من العراق حتى اللحظة؛ لكن الاستقلال يبقى استراتيجيتنا، ونحن نرغب في الحوار مع بغداد وجميع الأطراف الإقليمية والدولية، ووفق أجندات مفتوحة، ومستعدون لبحث كل المسائل».
لكن رئيس الحكومة حيدر العبادي يرفض مبدأ الحوار؛ مطالباً أولاً بإلغاء الاستفتاء واعتباره وكأنه لم يكن، وهو أمر لا تستطيع أربيل القبول به رغم موجة الرفض الدولي الذي واجهته، من منطلق الخوف من أن يؤدي انقطاع خيط السبحة العراقية إلى انفراط سبحات أخرى في الإقليم ولو بعد حين، وما سيترتب على ذلك من الصراعات المفتوحة.
المخاوف في عدد من الدول الأوروبية لا تقلّ عن المخاوف العراقية والتركية والإيرانية، ففي القارة العجوز كثير من خيطان السبحات المعرضة للانقطاع، قبل استفتاء كاتالونيا وبعده. في السياق ليس خافياً بروز ملامح التفكك التي في اسكوتلندا وآيرلندا بعد البريكست، وإذا كان أنصار الاستقلال في اسكوتلندا فشلوا في استفتاء عام 2014 عندما حصلوا على 45 في المائة من الأصوات، فإنهم يستعدون منذ اليوم لتنظيم استفتاء جديد في سنة 2019. وتعالوا إلى إسبانيا التي تتألف من 17 منطقة تتمتع بالحكم الذاتي، إضافة إلى مدينتين للحكم الذاتي هما سبتة ومليلية، وقد يكون من الضروري الانتباه إلى أن هناك ثماني نزعات واضحة تدعو إلى الانفصال عن مدريد ولو بأسلوب متفاوت. من المناسب التذكير، مثلاً، بأن الآلاف من أهالي بيلباو خرجوا قبل أسبوعين من موعد الاستفتاء الكاتالوني في مظاهرات حماسية مؤيدة له، بدعوة من منظمة «غوري آسكو داغو» وعلى خلفية أنهم من إقليم الباسك الذي سبق له أن انخرط في صراع دموي طويل مع مدريد، قادته منظمة إيتا الانفصالية التي لم تتوقف عن العمل المسلح إلا عام 2011.
إضافة إلى هذا، من الواضح أنه في حال ترسيخ استقلال كاتالونيا، ستستيقظ أشباح الماضي في فالنسيا وجزر البليار، للانضمام إلى «كاتالونيا العظمى» التي كانت قائمة في الماضي، ثم إن هناك نزعة إلى الاستقلال في إقليم الأندلس (أندلوسيا) جنوب إسبانيا، وهو ثاني أكبر أقاليم إسبانيا، والذي يحاذي مضيق جبل طارق.
التراشق بين العبادي وبارزاني مثل التراشق بين رئيس الحكومة الإسبانية ماريانو راخوي، الذي رفض الاستفتاء قائلاً: «إن دولة القانون ظلّت قائمة بكل قوتها، وإن رجال الأمن قاموا بواجبهم في كاتالونيا رغم وقوع 850 جريحاً»، وبين رئيس إقليم كاتالونيا كارلس بيغديمونت، الذي كان يقول: «يا مواطني كاتالونيا، لقد كسبنا الحق في أن تكون لنا دولة مستقلة على شكل جمهورية». وإذا كانت مشكلة الأكراد تعود إلى حقبة الحرب العالمية الأولى عام 2014، عندما وزّعهم اتفاق «سايكس – بيكو» على أربع دول عارضت استقلالهم ومنعت قيام دولة كردية تحقق حلم الأقليات بالاستقلال، رغم أن الكرد ليسوا أقلية، فعددهم يصل إلى 40 مليوناً، فإن الكاتالونيين توارثوا دائماً مرارة الإحساس بأنهم ليسوا مواطنين إسبانيين؛ بل إنهم تحت الاحتلال الإسباني الذي رسخه بالقوة فرنسيسكو فرانكو، بعدما أقره اتفاق ما يسمى «صلح البرنس» الذي وقعته فرنسا وإسبانيا بعد حرب بينهما امتدت من عام 1635 إلى عام 1659.
المخاوف الدفينة في باريس بعد هزة كاتالونيا تشبه مخاوف أنقرة بعد هزة كردستان، ذلك أن أغلبية واضحة في جزيرة كورسيكا مثلاً، مسقط رأس نابليون بونابرت، تطالب بالاستقلال عن باريس، بعد نزاع استمر طيلة نصف القرن الماضي، وتصل الارتدادات إلى بلجيكا، حيث يطالب إقليم الفلاندرز بالانفصال وقيام الجمهورية الفلمنكية، أما جزر فارو الدنماركية فهي ذاهبة إلى استفتاء على الاستقلال العام المقبل.
على خلفية كل هذا، تبدو سبحات دول كثيرة مهددة بالانفراط، وهو ما يفرض حتماً على الأنظمة المركزية وحتى المفدرلة منها، أن تعيد النظر في القواعد التي تحكم العلاقة مع الأقليات والإثنيات، من الحكم الذاتي الرحب إلى الكونفيدرالية المتعاونة.