مصطفى السعيد

مع قرب طي آخر صفحات داعش، تهب رياح تغييرات سريعة علي المنطقة، فالزيارة التاريخية للملك سلمان بن عبد العزيز إلي موسكو أسفرت عن تفاهمات امتدت من السياسة إلي الاقتصاد، وتجاوزتها إلي الاتفاق علي صفقة صواريخ دفاع جوي إس 400، وتقديم فرقة باليه البولشوي الشهيرة عروضا في الرياض، في الوقت الذي كان فيه الرئيس التركي رجب طيب اردوغان يزور إيران، ليعلن مرحلة جديدة للعلاقات بين أنقرة وطهران، تبعد تركيا خطوات إضافية عن واشنطن وتل أبيب، ولم تجد الولايات المتحدة ما تفعله سوي إلقاء حمم غضبها علي أكثر من جبهة، فقد صادرت مقار دبلوماسية روسية في الولايات المتحدة، في خطوة غير مسبوقة علي مسار التوتر المتصاعد بين البلدين، والذي كاد يصل إلي صدام عسكري علي الأراضي السورية بإعلان روسيا أن القوات الأمريكية شاركت في قتل جنرال روسي، عندما أمدت داعش بإحداثيات مكان وجوده ، بل وصفت القوات الأمريكية في سوريا بأنها تتعاون مع داعش في توجيه الضربات للقوات السورية وحلفائها، وعلي صعيد آخر أعلن الرئيس الأمريكي ترامب اعتزامه مطالبة الكونجرس بإلغاء الاتفاق النووي مع إيران، كما طالت حمم الغضب الأمريكي النظام السوري وحزب الله اللبناني، ووصفهما ترامب بأنهما خطر علي المنطقة. 

وإذا أضفنا ما حدث في إقليم كردستان، بإجراء الاستفتاء حول الانفصال عن العراق، والدور الأمريكي الخفي والإسرائيلي المعلن في إجرائه، والتعثر الواضح لمشروع الانفصال تحت ضغوط العراق وإيران وتركيا، فإننا نجد أن المنطقة مقبلة علي مرحلة جديدة تعكس موازين قوي «عالم ما بعد داعش»، والذي سيخطو إما باتجاه محطة تالية من الصراع الاشد عنفا، أو التكيف مع موازين قوي جديدة، والاعتراف بدور أكثر تأثيرا للتحالف الذي تقوده روسيا علي حساب التحالف الأمريكي. الانتهاء الوشيك لدور داعش وباقي الجماعات التكفيرية في العراق وسوريا هو الحلقة الرئيسية في معظم هذه المتغيرات، ولهذا جاءت مذكرات التفاهم السعودية الروسية في سياق التأقلم مع الوجود الروسي ومحاولة احتوائه وفصله عن الحضور الإيراني، لكن تنويع المملكة لمصادر التسليح، وإنهاء الاحتكار الأمريكي الطويل لصفقات التسليح يعني أن دول الخليج لم تعد واثقة من نتائج الانفراد الأمريكي في إدارة الأزمات المتفجرة، بينما تقدم روسيا نفسها بأنها يمكن أن تلعب دور الاطفائي القادر علي احتواء الحرائق الممتدة من سوريا والعراق إلي اليمن وليبيا. 

لا يبدو أن إدارة الرئيس الأمريكي ترامب لديها خطط بديلة، وأن أقصي ما تستطيعه الآن هو إفساد احتفالات روسيا وإيران وسوريا والعراق بالانتصار، فلا قتل جنرال روسي أو هجوم داعش المضاد الفاشل علي البادية السورية، ولا حتي الاستعانة بالأكراد يمكن أن يغير مسار المعارك في سوريا والعراق، فالجيش السوري دخل مدينة الميادين، يليها مدينة البوكمال، ليلتقي مع الجيش العراقي الذي يتقدم في غرب الأنبار، ويكون لقاء الجيشين علي طول الحدود السورية العراقية هو الإعلان النهائي عن اندحار دولة داعش. أما بخصوص نيات ترامب إلغاء الاتفاق النووي مع طهران فلا يبدو أنه مجديا، فهو يصطدم برأي قطاع كبير من نواب الكونجرس، ولا تؤيده وزارة الدفاع الأمريكية «البنتاجون»، إلي جانب الرفض الاوروبي القوي لإلغاء الاتفاق النووي، ولهذا لن يجني ترامب من قراره إلا المزيد من العزلة الداخلية والخارجية، ليضيف صعوبات جديدة أمام إدارته المتخبطة لملفات خطيرة، وهو ما أثار التكهنات باعتزام وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون تقديم استقالته، فمراكز صناعة القرار الأمريكي لا تبدو منسجمة، ولا لديها رؤية واضحة لطبيعة وسبل مواجهة التحديات المتفاقمة، سواء المتعلقة بإدارة الأزمات مع روسيا والصين وكوريا الشمالية وإيران، أو إعادة هيكلة الاقتصاد الأمريكي ليكون قادرا علي المنافسة في الأسواق المفتوحة. 

يعبر وزير الدفاع الإسرائيلي أفيجدور ليبرمان عن رؤية إسرائيل لواقع ما بعد داعش، بقوله إن دولا أوروبية وعربية تسعي إلي توطيد علاقتها بالنظام السوري المنتصر، ويكشف تصريح ليبرمان القلق الإسرائيلي من صعوبة تحقيق هدف اجتذاب دول عربية إلي شراكة أو تحالف مع إسرائيل يستهدف مواجهة إيران، ويبدو أن خطط إسرائيل تستهدف إعادة إنتاج الأزمات وإدامة الحروب، ولهذا كانت الدولة الوحيدة التي أعلنت تأييد انفصال كردستان العراق، ومازالت تحتضن بعض مقاتلي جبهة النصرة وجماعات مسلحة قرب هضبة الجولان السورية المحتلة، ومازالت تقرع طبول الحرب علي لبنان، ولا تكف عن الحديث عن ضرورة خوض الحرب الثالثة مع حزب الله اللبناني، لكن الوقت المناسب لمثل هذه الحرب بأقل الخسائر قد مضي، باستعادة الجيش السوري وحلفائه معظم الأراضي التي احتلتها الجماعات التكفيرية، وستكون تكلفة الحرب أضخم من أن تتحملها إسرائيل، خاصة مع تضاؤل آمالها بمشاركة دول عربية إلي جانبها في مثل هذه الحرب. الأزمة المركبة التي يواجهها العالم يمكن تلخيصها في أن الولايات المتحدة مستاءة من قيادة ترامب، وأن أوروبا مستاءة من قيادة الولايات المتحدة، وأن الصين وروسيا وحلفاءهما مستاءون من قيادة الغرب للعالم، وجاءت الحرب علي داعش وباقي الجماعات التكفيرية بمنزلة إختبار للقوة، بين تحالف لا يريد للعالم أن يتغير، ويسعي إلي تكريس الهيمنة الأمريكية، وأخري تتمرد علي نظام هيمنة القطب الواحد، وتري أن الوقت قد حان لرحيله.