السيد ولد أباه

في هذا الشهر تحل الذكرى المئوية للثورة البولشفية في روسيا التي كانت تاريخياً ثالث ثورة كبرى غيرت أوضاع العالم، إلى جانب الثورتين الفرنسية والأميركية في نهاية القرن الثامن عشر. ومع أن التجربة السّوفييتية الشيوعية قد انهارت في بداية تسعينيات القرن الماضي، ومعها وحدة الإمبراطورية الحمراء التي أسسها لينين وستالين، فإن هذا الحدث لا يزال يشكل لحظة تحول كبرى في تاريخ روسيا المعاصرة بالنسبة لكل الروس حتى لو تعددت القراءات والمقاربات حول هذه الثورة في أدبياتهم الراهنة.

ومعروف أن الرئيس الحالي «بوتين» قد اعتبر أن انهيار الاتحاد السوفييتي هو أكبر كارثة حلت بالعالم في العقود الأخيرة، كما أنه أعاد الاعتبار إلى «ستالين» كأحد الأبطال القوميين البارزين، بيد أنه تخلى كليا عن المعجم الماركسي السوفييتي وآثر العودة إلى الخطاب القومي الروسي الكلاسيكي في نزعته المحافظة المستندة إلى التقليد المسيحي الأورثوذكسي والتوجه الأوروآسيوي من حيث هو تأليف بين العقلانية الأوربية والروحانية الشرقية، مع تكريس فكرة الدولة الإمبراطورية العسكرية القوية المجسدة للهوية الروسية.

وفق هذا المنظور، يتجه بعض المؤرخين الروس الجدد إلى إعادة قراءة الثورة البولشفية خارج سردية الفكر الأوروبي، مقابل التصور التقليدي الذي يربط هذا الحدث بخلفيات التجربة الماركسية نظراً وممارسة باعتبار أن مشروع «لينين» كان هو إنجاز المشروع الاشتراكي الذي حاولته الأحزاب الشيوعية في أوروبا، وبهذا يكون امتداداً لتجربة القيصر بطرس الأكبر الذي أراد تحديث روسيا بربطها بالمسار الأوروبي.

ومعلوم أن الثورة الروسية شكلت عند اندلاعها تحدياً نظرياً للفكر الماركسي، كونها لم تظهر في وسط رأسمالي صناعي تشتد فيه الصراعات الطبقية، بل في مجتمع زراعي إقطاعي غير مهيأ للانتقال إلى الاشتراكية. وقد عرف عن ماركس قوله إن أكبر عقبة أمام الثورة العمالية الأوربية هي الدولة العسكرية الروسية التي تشكل جداراً منيعاً أمام التحول الاجتماعي المنشود، ولذا استبعد كلياً انتقال المشروع الشيوعي إلى روسيا ولم يراهن على نشاط الزعماء البولشفيين المنفيين في أوروبا الغربية.

وفي كنابه «ما العمل؟» الصادر عام 1902، يذهب «لينين» إلى نقد نظرية «الدائرة الضيقة» التي حشر فيه الحزبيون الشيوعيون مشروعهم السياسي، بحصر دائرة اهتمامهم في الوسط العمالي الذي لا يمكن بذاته أن يحدث تغييراً جوهرياً في روسيا، معتبراً أن الثورة تحتاج من أجل نجاحها إلى تحالف واسع بين العمال والفلاحين والمثقفين الذين سماهم «الثوريين المحترفين» ومع القوميات المضطهدة الخاضعة للإمبراطورية القيصرية.

من هذا المنظور، لم تكن ثورة 1917 في بدايتها ثورة أيديولوجية أو عمالية، وإن تحولت تدريجياً إلى نمط جديد من الحكم السياسي ليس له خلفية في المقاييس الماركسية نفسها، وهو ما عبّر عنه لينين نفسه ب«رأسمالية الدولة» التي هي الجسر الضروري بين الدولة الرأسمالية وما بعد الدولة في الحالة الاشتراكية.

المقاربات التاريخية الجديدة في روسيا تنزع للقول بأن عبقرية لينين تمثلت في استيعاب المقولات الماركسية في التقليد الروسي، بصياغة النزعة الروحانية المسيانية للمسيحية الأورثوذكسية المحافظة في قوالب فلسفية جديدة، وبالحفاظ على فكرة الدولة القوية الضامنة لوحدة المجتمع وتماسكه التي هي من ثوابت التاريخ السياسي الروسي.

وقد شكل الموضوع القومي مشكلا نظرياً وأيديولوجياً للدولة السّوفييتية التي غيرت تسمية الدولة وإن ظل المكون الروسي هو محورها، فحافظت إجمالا على الطابع الإمبراطوري بضمها لأقاليم أوكرانيا وروسيا البيضاء والبلاد القوقازية، فلم تكن الدولة السّوفييتية دولة قومية بالمعنى الحديث للعبارة وإن تخلت عن النموذج الإمبراطوري القيصري. وهكذا تعايش مفهوم «الشعب الروسي»، القائد لاتحاد الأمم السّوفييتية، ومفهوم «الشعب السوفييتي»، واستخدم ستالين التفريق الشهير بين النزعة القومية الثورية، المقبولة، والنزعة القومية «الرجعية المرفوضة».

ومع انهيار المرجعية الأيديولوجية للاتحاد السوفييتي انهارت الإمبراطورية وتفككت بانفصال عدد مهم من جمهورياتها، في مقدمتها أوكرانيا التي لها مكانة محورية في التاريخ الروسي الحديث، وطرِحَ مجدداً إشكال الهوية الروسية بحدة غير مسبوقة.

وهكذا تخلص النقاش المحتدم في العقدين الأخيرين حول «الفكرة الروسية» إلى أن ثورة 1917 ترمز بالنسية للأجيال الجديدة إلى معنيين متعارضين: رمزية القوة والهيبة والمكانة الريادية المفقودة في المجال الاستراتيجي الدولي (ومن ثم الحنين وإعادة الاعتبار لها) ورمزية الاستبداد السياسي والتخلف الاقتصادي وإضعاف الهوية الروسية في مقوماتها الدينية والثقافية، ومن هنا الجرح الغائر الذي خلفته في المتخيل الروسي.