حازم الامين

من أعقد ما يمكن أن يواجه المرء أثناء تخيله مستقبل سورية في ضوء آخر ما أفضت إليه المعطيات الميدانية، هو تصور مستقبل النظام فيها، ذاك أن الأخير حقق بمساعدة ميدانية برية إيرانية وجوية روسية تقدماً في معظم خطوط القتال، وهذا يطرح على المرء احتمال استئنافه حكم سورية.

كيف سيحكم النظام في ظل هذه الحقيقة؟ وما هو شكل تقاسم النفوذ مع شركائه في النصر؟ ثم إن الشركاء، وحصتهم من النصر أكبر من حصته، ما هي حدود تأثيرهم في سورية في أعقاب استتباب الأمر لهم؟

المؤشرات كلها لا تساعد على التوقع. النظام لن يتمكن بأي حال من الأحوال من إدارة سورية بمفرده، وأن يكون له شركاء من خارجها، من أمثال موسكو وطهران، يطرح تساؤلات موازية، فهل يعني ذلك استمرار الوجود المباشر لطهران برياً ولموسكو جوياً؟ لا سابقة يمكن البناء عليها على هذا الصعيد، فلم يسبق لدولة أن حُكمت على هذا النحو لكي يتوقع المرء طبيعة السلطة المنبثقة من هذا النصر الإقليمي.

ثم إن قضايا سورية الرئيسة بعد إنجاز التحالف نصره ستكون قضايا من نوع إعادة الإعمار وعودة النازحين وترميم قاعدة السلطة ومراجعة مستويات الخسائر والمشكلة الكردية وخسائر العلويين... وكل هذه الهموم لا تنسجم مع الطبيعة التراكبية للسلطة المنعقدة في دمشق في أعقاب النصر، فإعادة الإعمار تعني عودة النازحين، وهذا ما لا يبدو أنه سيكون من هموم سلطة ما بعد النصر في ظل ما جاهر به بشار الأسد لجهة أن ما جرى مثل تنقية لـ «النسيج الاجتماعي»، وأن سورية ستكون لـ «من دافع عنها».

ثم إن النهاية ستكون أيضاً فرصة لإعادة توزيع الغنائم على أصحاب الدم. القاعدة العلوية للنظام دفعت أثماناً هائلة، وسيكون النظام في ظل شركائه الروس والإيرانيين أعجز من أن يدفع ما يترتب عليه. الحصص أصغر من «التضحيات» على كل المستويات.

«حزب الله» مثلاً دفع أكثر من ألفي قتيل، فكيف يمكن النظام السوري أن يُكافئ حزباً لبنانياً؟ هل يصح أن تكون للحزب حصة في السلطة السورية؟ وإذا كانت حصة الحزب من نصيب إيران، فكيف سيترجم ذلك عملياً؟ أما موسكو، فستجد نفسها بعد الحرب أمام انحسار في دورها لن تقوى على تعويضه، فلا قوة ميدانية محلية يمكن أن تمثل النفوذ الروسي في ظل توقف وظيفة الغارات، ولا قدرة اقتصادية لموسكو تساعدها على حجز مكان في إعادة الإعمار.

ثم إن لإسرائيل حساباً لا يمكن الهروب منه أثناء التفكير بمستقبل سورية على رغم جعجعة الممانعين، فهذا المشهد يفترض نفوذاً إيرانياً على الحدود السورية الإسرائيلية. ومن غير المعروف عن تل أبيب أنها تستكين لمعادلة من هذا النوع. يمكن كثيرين القول إن حرب تموز (يوليو) 2006 غيرت هذه المعادلة، وإن على اسرائيل أن تقبل! الواقع الفعلي يقول إن إسرائيل انتصرت في حرب تموز، وإن معادلة ما بعد هذه الحرب لبت كل احتياجاتها، وحدودها مع لبنان أصبحت آمنة منذ يوم إعلان نهايتها وإلى يومنا هذا.

إذاً استبعاد الاعتبار الإسرائيلي عن مشهد سورية بعد اكتمال نصر حلفاء النظام سيكون غير واقعي، وفي الوقت ذاته لا يبدو أن المنتصرين قادرون على دفع جزء من الغنائم لتل أبيب.

كل هذه العوامل ستبقي نصر تحالف موسكو وطهران في سورية معلقاً، وستُبقي أبواب الحرب مفتوحة، خصوصاً أننا استبعدنا من هذه المحصلة اعتبارات كبرى هي أصلاً خارج خطاب المنتصرين، فالنصر في سورية هو نصر على السنة، وهؤلاء يمثلون أكثر من 80 في المئة من السكان. المنتصرون غير راغبين بشريك سني في نصرهم، وهذا ما يجعل النصر احتلالاً واستئنافاً لحروب بأشكال جديدة. وسنة سورية بدورهم ليسوا نسيجاً منسجماً ومبلوراً تمكن مخاطبته بعرض إذا ما توافرت نية مخاطبتهم.

ثم إن المنتصر سيجد نفسه أمام مسؤوليات يعتقد أنه تخفف منها. ثمة مليون ونصف مليون لاجئ سوري سني في لبنان مثلاً. حلفاء النصر من العونيين يحرضون عليهم ويطالبون بترحيلهم. عودتهم لا تنسجم مع معادلة «الانسجام الاجتماعي»، والتحريض العوني عليهم سيصطدم بحقيقة أن من يمنع عودتهم هم الحلفاء، ولن تُقابل خطب جبران باسيل سوى بابتسامة خبيثة مرتسمة على وجه وليد المعلم.

سورية محاصرة بأكثر من ثمانية ملايين لاجئ يقيمون تماماً خارج حدودها، ونظيرهم في داخلها. وبمدن تفوق كلفة إعادة إعمارها ثلاثمئة بليون دولار، وباحتلالين روسي وإيراني، وذلك بعد انكفاء الاحتلال التركي وانحساره في حدود إدلب، وبتحفز إسرائيلي للانقضاض على أي معادلة، وبقدرة أردنية على عدم البقاء خارج الحدود. هذا المشهد لا يُنشئ توازناً. إنه استئناف للحروب وتبديد للانتصارات واستمرار للموت.