حنا صالح

سيقال ويُكتب الكثير عن زيارة الملك سلمان بن عبد العزيز لروسيا الاتحادية. كل المباحثات ومروحة الاتفاقات الكبيرة والشاملة بين البلدين، ستكون محور بحث وتقييم شاملين، ولا مبالغة في القول: إنه سيتم تأريخ ما قبل الزيارة وما بعدها، للأثر الذي ستتركه على مجرى الأحداث في منطقتنا المضطربة بفعل التدخلات الخارجية لا سيما الاندفاعة الفارسية للهيمنة.

طبعاً تمتلك روسيا نتيجة تدخلها العسكري في سوريا والنتائج التي حققتها في الميدان، النفوذ الأكبر الذي حوّلها إلى المرجع والمقرر، وهي استفادت في ذلك إلى الحد الأقصى من الغياب الأميركي، وتمتلك النفوذ اللافت في الأزمة الليبية مستفيدة من تراجع الدور الأوروبي، وتقيم علاقات وثيقة مع مصر، كما أن علاقاتها مميزة مع إسرائيل، وبموازاة علاقات تترسخ كل يوم مع تركيا فإن علاقاتها مع إيران قديمة وقوية، وواضح اليوم وجود طلب متزايد على دورها وأسلحتها.

بدورها السعودية التي تمتلك الكثير من مفاتيح القوة الاقتصادية الكبرى، تصدرت أقله من بداية الألفية الثالثة الدفاع عن قضايا العرب دون كللٍ أو منٍّ، من مبادرة «الأرض مقابل السلام» في القمة العربية في بيروت، مروراً بقتال الإرهاب والتطرف، إلى إطلاقها «عاصفة الحزم»، مُتخلية عن سياسة الانتظار، مُدشنة أوسع مواجهة مع التحدي الإيراني، الذي زعزع استقرار المنطقة، مُقوضاً استقرارها، مُتباهياً بفرض سيطرة طهران على أربع عواصم عربية.

البلدان اعتمدا خطوات تقارب مدروسة، أطلقتها زيارة الرئيس بوتين للرياض في عام 2007، وارتقت إلى نوع من التحالف في عام 2015، مع الزيارة الأولى لولي العهد محمد بن سلمان إلى روسيا، فأنجزت موسكو والرياض اتفاقاً تاريخياً «أوبك بلس»، الذي أعاد الاستقرار للسياسات النفطية والأسعار، فخدم الدول المنتجة والمستهلكة، وأوقف الاضطراب والتراجع في الميزانيات وبرامج وخطط التطوير الاقتصادي.

اليوم مع اتساع النفوذ الروسي في المنطقة، حملت الزيارة الملكية وحفاوة الاستقبال منقطع النظير أكثر من دلالة ومغزى. ففي التوقيت جاءت بعد أشهر على الزيارة الاستثنائية للرئيس الأميركي دونالد ترمب للرياض، والقمم التي رافقتها، والتي أكدت متانة التحالف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة، لتؤكد المغزى الخاص في هذه المرحلة للارتقاء بالعلاقة مع روسيا، مع قيادة روسية طموحة ومبادرة يمكن أن تكون الشريك الموثوق للمملكة في أكثر من قضية وأزمة. الزيارة نقلة كبيرة جداً تتوج سياسة قيادية مبادرة، وإنْ بالتوقيت تتمُ بعد تحسن العلاقة بين الرياض وبكين وتطور العلاقات مع اليابان وسائر دول أوروبا.

على الطاولة طرحت السعودية، وبلسان الملك سلمان بن عبد العزيز، رؤيتها وما تراه للمنطقة، من ضرورة الشروع في الحل السياسي للأزمة السورية بما يحفظ وحدة سوريا على قاعدة مؤتمر «جنيف1» والقرار الدولي (2254)، مروراً بمسألة التسوية في المنطقة، وقبل هذا وذاك التعاون الوثيق والفعال في مجال مكافحة الإرهاب وقطع دابر الخلايا النائمة والذئاب المنفردة، ثم الدعوة الصريحة إلى «إلزام الإيرانيين بوقف تدخلاتهم المزعزعة للاستقرار في اليمن والمنطقة». ولم يتأخر تناغم موسكو، فالزيارة هي «الحدث التاريخي» وفق الرئيس الروسي، مع تأكيدات أنْ لا حلَّ في سوريا يقلق السعودية وما ومَن تمثِّل، وشديدة الأهمية «انطلاقاً من المكانة التي تشغلها السعودية في المنطقة والعالم العربي برمته» وفق الناطق باسم الرئاسة الروسية.

طبعاً المواجهة الكبرى التي تنهض الرياض بأعبائها، هي وضع حدٍّ لعدوانية إيران ونهجها الذي عمّم الخراب في المنطقة العربية؛ الحوثي في اليمن، والميليشيات التي استقدمتها إلى سوريا، و«الحشد الشعبي» في العراق، هي الوجه الآخر للإرهاب المسلط على المنطقة، والوسيلة الفُضلى لفرض هيمنة طهران، وفي هذه المعركة وسواها روسيا على تماسّ مع القضايا التي تهم المملكة، وهي لاعب رئيسي في كل الشرق الأوسط، وجوداً مباشراً أو علاقات تحالف، والمفاتيح التي بحوزتها مرشحة لأن تساعد في فتح كثير من الأبواب الموصدة.

الزيارة – الحدث توجت علاقات تدرجت صعوداً، وفي هذا الصدد كانت لافتة جداً مجمل الاتفاقات الاقتصادية، لكن حجم ونوعية الاتفاقات العسكرية التي أُبرمت جاءت نوعية مع صفقة صواريخ «إس - 400» التي أُرفقت باتفاقية لتصنيع هذا النظام في المملكة، واتفاقية أخرى لبدء تصنيع البندقية الروسية الشهيرة «كلاشنيكوف» في السعودية، لتؤكد العزم على تطوير القدرات السعودية الدفاعية بمواجهة التهديدات الصاروخية لإيران وأتباعها، وكذلك الارتقاء بهذه القدرات العسكرية إلى مستوى أرفع.

الرياض بادرت وقلبت صفحة كبيرة قديمة، في مقاربة العلاقة مع موسكو، والأمر بعد اليوم سيقلق إيران ووجودها في سوريا، وعلى الطريق يتهيأ خلط أوراق إيجابي، وتراجع حتمي للعربدة الإيرانية الدامية ومشروع الإمبراطورية الساسانية.