السيد ولد أباه 

كان ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان صريحاً وواضحاً في تصريحه الأخير بأن بلاده ليس لها وقت لتضيعه في تحمل تبعات وآثار حركات التطرّف الديني التي أرجعها إلى نهاية السبعينيات، متوعداً بتدميرها والقضاء عليها، عودة للإسلام المعتدل والمنفتح على كل الديانات والثقافات.

سنة 1979 التي أرجع إليها الأمير محمد بن سلمان موجة التطرّف الراديكالي ترمز إلى ثلاثة تحولات كبرى تدفع المنطقة إلى اليوم ثمنها الباهظ: الثورة الخمينية في إيران، وبروز السلفية المتشددة التي كشفت عنها أحداث جهيمان، وعسكرة الإسلام السياسي من خلال جماعات الإرهاب التي بدأت عملياتها العنيفة في مصر قبل أن تنتقل من بعد ذلك إلى مناطق عديدة أخرى في العالم العربي والإسلامي.

وعلى رغم الفروق بين هذه الحركيات الثلاث، فإنها تلتقي في مقومات فكرية وعقدية عديدة، نقف عند ثلاثة منها:

أولاً: تحويل المرجعيات العقدية في الدين إلى قاعدة أيديولوجية للفعل السياسي، ينبني عليها حصر الانتماء للدين وهوية الجماعة المسلمة في الحركات والتنظيمات السياسية والأيديولوجية، بما يفسح المجال أمام أخطر نزعات التكفير. لا فرق هنا بين التشيع الأيديولوجي الذي يلغي التقليد الشيعي، ولا الإسلام السياسي المتفرع من الفكر «الإخواني» ولا السلفية الاحتجاجية التي استنبطت مقولات «الحاكمية» والعزلة الشعورية و«الصفوة المؤمنة المجاهدة» من الأدبيات القطبية في الوقت الذي استعارت فيه أيضاً رمزية الإمامة المهدوية من التشيع الأيديولوجي.

وينتج عن هذا التحول تغير جوهري في تصور الإيمان في المنظور العقدي الإسلامي الذي كان يعني مجرد الإقرار بالرسالة والانحياز لأهل القبلة والجماعة، دون الحاجة إلى قانون للاعتقاد أو تكفير بالعمل والمعصية، وهو التصور الذي نجده عند السلفية الإصلاحية قبل أن يمسها التحريف والنزوع الراديكالي العنيف.

ثانياً: تحويل الأحكام الفقهية المتعلقة بالإمامة والسلطة إلى مفهوم غير مسبوق للدولة الدينية من منظور ازدواجية الديني والسياسي في الإسلام التي تعني اعتبار الدولة من المقومات العقدية في الدين والخروج على أنماط الأحكام السياسية التي لا تطبق «الشريعة» مع اختزال الشريعة في دلالة القوانين «المقدسة» المنظمة للدولة والمجتمع. ولا تختلف في هذا التصور نظرية «ولاية الفقيه» التي بلور صيغتها الأيديولوجية الخميني بالاستناد إلى أدبيات تنظيم «الإخوان المسلمين» الإرهابي، ولا السلفية الراديكالية التي تشبعت بالأفكار «الإخوانية». والمشكل في هذا التصور هو اختراع مقاربة جديدة في الشرعية السياسية لا أصل لها في التقليد الإسلامي الذي لا يرى في أمور الإمامة أصلاً من أصول العقيدة، بل هي من فروع الفقه والأحكام المبنية على المصالح التقديرية والسلطانية. وحتى التقليد الشيعي التي نظر إلى الإمامة من زاوية الاعتقاد لم يبن عليها نظرية في الشرعية السياسية، بل حولها إلى أفق إسكاتولوجي روحي (الإمام المنتظر وتعطل الشرعية السياسية في عصر الغيبة).

ثالثاً: تحويل المنظور الإصلاحي الاجتهادي للدين الذي قامت عليه الحركات النهضوية الحديثة منذ القرن التاسع عشر إلى مقاربة تأويلية جامدة ومغلقة، من منطلق القراءة المباشرة للنص والقطيعة مع «التحريفات» الموروثة التي تعني التراث الإسلامي في مدونته الكلامية والمذهبية المتنوعة التي هي أساس تجربة العيش الإسلامي الغنية. لا فرق هنا بين التشيع الأيديولوجي في علاقته بالموروث الشيعي ولا الإسلام السياسي أو السلفية الراديكالية، فكل هذه النزعات تلتقي في هذه التأويلية الفقيرة التي تلغي ثراء وغنى المدونة التراثية التي تمنح آفاقاً رحبة للاجتهاد ترجيحاً وانتقاءً وقياساً، كما تقطع أيضاً مع المناهج الحديثة في التأويل والقراءة التي تدشن آفاقاً دلالية رحبة لتجديد الدين.