وسام سعادة


لا «ثورة زاباتية» تنتظر في الضاحية أو في المناطق الشيعية بوجه «حزب الله». التعويل على ذلك مضيعة للوقت. المفارقة أنّ «حزب الله» غير مطمئن كفاية لهذا الواقع. الأسلوب الذي عالج به «الحادثة الشفوية» في حي السلم يظهر توجّساً يتجاوز ما حصل، بل يتجاوز جزئية خرق قواعد «الطوطم والتابو» المعمول بها في مناطق سيطرته. ما الذي يقلق «حزب الله» جديّاً كي يكون أداؤه على هذا المستوى من الإنفعال بوجه الإنفعال؟ الفرضية الأولى: مزيج من ذهنية «نظرية المؤامرة» كما درجت العادة من ناحية، ومن التوقّعات المرتبطة بالسياق الراهن، بأنّ أميركا ماضية قدماً في سياسة تعقّب الحزب، وأن «العقوبات المالية» عملية «تراكمية». وهذا يجعل أي «خرق» ولو كلامي، لقواعد «الطوطم والتابو» في الضاحية التهاب خطير في نطاق سيطرة الحزب. 

منذ خطاب أمينه العام في عاشوراء، أعطى الحزب انطباعاً بأنّه عائد إلى خطاب «الحرب المفتوحة»، بل الحرب الشاملة مع اسرائيل. وعلى الرغم من أنّ خطاب دونالد ترامب الخاص بالاستراتيجية حول ايران، رفع السقف الهجومي الكلامي في مقابل حالة غموض عمليّ، أو تردّد، فإنّ هذا الخطاب ليس بتفصيل أبداً عند النظر إلى مصير الاتفاق النووي، وكذلك إلى حيثية «حزب الله». أما استذكار الأميركيين لضحايا الهجوم على المارينز عام 1983 هذا العام، فإنه استذكار يتجاوز البعد الرمزيّ، وهو مؤشّر ينبغي أخذه تماماً بالحسبان. في مثل هذه الأجواء، يحتاج الحزب أيضاً إلى لعب لعبة مكافحة «الثورة المضادة» داخل بيئته. 

المفارقة أنّ قسماً من أنصار الحزب كانوا اعتقدوا أنّ هذه «الثورة المضادة» التي ينبغي مكافحتها رمزياً، بدل أن تتحقق عملياً، هي المتمثّلة بتزايد الهوة الإجتماعية بين الأغنياء والفقراء في مجتمع الضاحية. والضاحية ضاحيات بهذه المعنى. ويزيد من حدّة ظهور الإنقسام الإجتماعي داخلها انها منعزلة إلى حد معيّن عن بقية المناطق، لها دورة حياتها الخاصة، التي تنامت عندما توجب «التحصين الأمني» للمنطقة بوجه العمليات الإرهابية. هذا القسم من الأنصار أخذ يكثر الحديث بعد ما سماه الحزب «التحرير الثاني» في الجرود، بأنّ المطلوب سياسة محازبة للفقراء، تخلى عنها الحزب منذ فترة طويلة، أو هكذا يرى هذا المنظار. 

لكنّ الغلبة كتبت لخطاب آخر، يرى بأنّ معركة الحزب الداخلية في «الضاحية» هي مع كل ما يتناقض مع تطبيقه مبدأ «احتكار منظومة العنف الشرعي» في المنطقة، أي المبدأ نفسه الذي تقوم عليه الدول الوطنية والذي يرفضه الحزب بالنسبة إلى الدولة اللبنانية، وأنّ المعركة الداخلية هي مع «الدهماء» و»الزعران» و»الهوليغانية» ضمن بيئة الضاحية، والبيئة الشيعية، وأنّ هؤلاء بمثابة «طابور خامس»، أكثر خطورة من «شيعة السفارة»، وأكثر خطورة من تنامي الهوة الاجتماعية بين أغنياء الضاحية وفقرائها. 

ليست المشكلة هنا أنّ هكذا معركة تبدّد مشهديات «مجتمع المقاومة» و»البيئة الحاضنة» و»أشرف الناس»، أو أقلّه، تعترف بأنّها مشهديات غير مكتملة. المشكلة أنّه بكل بساطة موضوع خارج عن السيطرة، وأنّه موضوع هامشي، بازاء المشكلة التي تزداد وضوحاً: أغنياء الضاحية يطالبون الحزب بأن يكون حزبهم أولاً، وفقراؤها يطالبون الحزب بأن يكون حزبهم أولاً. الأوائل يساعدونه بالمال، من افريقيا إلى لبنان، ويتعرض قسم منهم، حتى ولو لم يكن حزبياً، إلى تداعيات العقوبات والتعقبات المالية الأميركية. والآخرون يمدونه بالشباب للحرب في سوريا، من دون أن يوقف ذلك الانزياح المتزايد لـ «العقد» القائم داخل الضاحية، لمصلحة الأكثر ثراء – وهؤلاء تتفاوت علاقاتهم بجهاز الحزب، مع اختلاف مصادر ثروتهم وأنشطتهم الاقتصادية.

المدهش أنّه، منذ ظهور الحزب الخميني في لبنان، لم يزدهر نقاش حول سمته الطبقية الأساسية، حتى في معشر الذين يأخذون بالمقاربات الطبقية والإجتماعية للحركات السياسية والشعبية اللبنانية. هل هو حزب البرجوازية الشيعية في لبنان؟ أم حزب الطبقة الوسطى الشيعية؟ أم حزب الطبقات الشعبية، والفقراء، في الإجتماع الشيعي؟ أم كان شيئاً وصار شيئاً آخر؟ أو أن الأمور فيه لم تحسم بعد؟ الى حد ما، الأمور أكثر وضوحاً في الأحزاب والحركات اللبنانية الأخرى. والى حد كبير أيضاً، «حزب الله» هو أقرب لأن يكون حزباً أكثر انحيازاً لجزء من البرجوازية الشيعية منها لأي شريحة اجتماعية أخرى في المجتمع الشيعي، حتى ولو كان يفضّل قسم منه أن يكون حزب الطبقة المتوسطة، ويحلم قسم آخر، خصوصاً من أنصار الحزب اليساريين والممانعين، في أن يكون حزباً للطبقات الشعبية، منحازاً اليها. 

ليس هناك من شبهة «ثورة زاباتية» في الضاحية. فليطمئن «حزب الله». لا داعي لهذا النوع من التوجسات والانفعالات. في الوقت نفسه، هناك «صراع طبقي» في الضاحية، صراع على الحزب، صراع داخل الحزب. ربما كانت الضاحية الجنوبية اليوم هي أكثر بقعة من لبنان تشهد صراعاً طبقياً واعياً ..إلى حدّ ما.