جبنة «عبد الناصر».. و«أرنب السادات».. ومذكرات «عمرو موسى»!

صلاح عيسي

لا تزال التداعيات التي أثارتها بعض الوقائع التي رواها وزير الخارجية المصري الأسبق، والأمين العام - الأسبق كذلك - للجامعة العربية «عمرو موسى»، في الجزء الأول من مذكراته تتوالى، خاصة أن المصادفة، التي هي خير من ألف ميعاد قد يختاره أي خبير تسويق مقتدر قد شاءت أن يتواكب صدور هذا الجزء مع مناسبتين مهمتين، الأولى هي الذكرى السابعة والأربعين لرحيل الرئيس جمال عبدالناصر في 28 سبتمبر 1970، والثانية هي الذكرى التاسعة والثلاثون لتوقيع الرئيس الراحل «أنور السادات» على معاهدة «كامب ديفيد» في 17 سبتمبر 1978، وهما مناسبتان يصعب القول بأن ناشر المذكرات لم يضعهما في اعتباره، وهو يختار موعد اطلاق الجزء الأول منها، باعتبارها من المصادفات السعيدة التي تسهم في إثارة اهتمام القراء به.
وحتى الآن لا تزال واقعة تناول الرئيس «جمال عبدالناصر» لطعام كان يستورد له خصيصا من العاصمة السويسرية «برن»، واحدة من أبرز الوقائع التي وردت في هذا الجزء من المذكرات، واعتبرها بعض الناصريين واقعة مصطنعة واستهدف «عمرو موسى» من روايتها تشويه صورة الرئيس «عبد الناصر»، الذي كان معروفا بالزهد والتواضع، في مأكله وملبسه، حريصا على أن يأكل مما يأكله الشعب، وكان الطعام المفضل لديه، هو الجبنة البيضاء والخبز الأسمر، فإذا بـ«عمرو موسى» يقدمه للمصريين في صورة الرئيس «الاشتراكي» الذي يستورد طعامه بالطائرة من العواصم الأجنبية!
وطبقا لرواية «عمرو موسى»، فقد كان مما لفت نظره حين بدأ عمله الدبلوماسي سكرتيرا ثالثا بالسفارة المصرية بالعاصمة السويسرية «برن»، أن الرئيس عبد الناصر كان يهتم بنظام غذائه، وأن الذين يخدمونه في مقر الرئاسة بالقاهرة كانوا يرسلون من وقت لآخر، من يأتي له بأصناف معينة وبسيطة من الطعام الخاص بـ«الرجيم» من سويسرا، وكان الذي يأتي لاستلام هذه الأصناف من «عمرو موسى» رجل ساذج ضخم الجثة، يتوهم أن مصر أكبر دولة في العالم، وأن رئيسها هو أعظم رئيس في العالم، وأن هولاء الرؤساء جميعا يتنافسون على القرب منه، ويتمنون رضاه، وعلى الرغم من ذلك، فإن الرجل طبقا لما كان يقوله عنه، هذا الرسول لـ«عمرو موسى» هو شخص «متواضع، يأكل الفول والجبنة، زي باقي الشعب»!
ما يلفت النظر أن السياق الذي يروى فيه «عمرو موسى» هذه الواقعة، يبدو مضطربا وغير منطقي، فالطريقة التي يتحدث بها هذا الرسول، تدل على أنه شخص ساذج محدود الثقافة، أقرب ما يكون إلى العوام منه إلى الرسول الذي يقوم بمهمة دبلوماسية، ثم أنه لا صلة بين مهمته، وبين ما تكلم عنه، فهو يطير من القاهرة إلى «برن» لكي يحمل طعام «رجيم» خاصًا بالرئيس عبدالناصر، ومع ذلك يتحدث عن أن الرئيس رجل متواضع لا يأكل إلا الفول المدمس والجبنة البيضاء شأنه في ذلك شأن بقية الشعب!
ويبدو أن «عمرو موسى» أدرك أن هناك عنصرا مهما ينقص الواقعة، لا يمكن فهمها دون الإشارة إليه، فأضاف إليها هامشا يقول فيه: اكتشف الأطباء إصابة الرئيس «جمال عبدالناصر» بداء السكري منذ سنة 1958، وضبط معدلات السكر في الدم يتطلب تخفيض الوزن، وبذلك تستقيم رواية الواقعة، فالرسول الخاص لم يكن يسافر من «القاهرة» إلى «برن» لكي يستورد طعاما خاصا يحافظ به «عبدالناصر» على رشاقته، بل كان يستورد مكملا غذائيا، ودواء يضبط به نسبه السكر في الدم، هو جزء من العلاج الذي يتناوله «عبدالناصر» لكي يواجه به المرض المزمن الذي أصيب به.
والحقيقة أن الطريقة التي روى بها «عمرو موسى» الواقعة، لا تبرئه من شبهة الرغبة في الإساءة لذكرى «عبدالناصر»، بالإيحاء بأنه كان يستورد طعاما خاصا بالطائرة من أوروبا، خاصة أن ما اقتبسه من أقوال الرسول الذي كان ينقل هذا الطعام، لا قيمة - أو أهمية سياسية له - تدفع صاحب المذكرات إلى الحرص على تسجيلها.
وعلى العكس من ذلك، فإنا نستطيع أن نبرئ الكاتب الكبير الراحل «أحمد بهاء الدين» من أي شبهة تتعلق بواقعة مماثلة، رواها في مذكراته التي نشرها عام 1987 بعنوان «محاوراتي مع السادات»، وهو يقول إنه تناول طعام الغداء مع الرئيس السادات وزوجته، لأول مرة في جو خاص بعيد عن الرسميات، وإنهم جاءوا للرئيس بأرنب مسلوق، أخذ يأكله بيديه دون استخدام أدوات المائدة، وفي أثناء الطعام أشارت «جيهان السادات» إلى طاجن من المكرونة، وقالت إنها أحضرته خصيصا من الخارج لأنها مكرونة مصنوعة من «السيليلور»، وليست بها أي مادة نشوية ترفع نسبة السكر في الدم، ومع ذلك فإن الرئيس «السادات» يرفض أن يذوقها أو أن يأكل شيئا سوى الأرنب المسلوق!
وهو ما دفع «أحمد بهاء الدين» للقول، بأنه يتمنى لو أن الرئيس «السادات» تنازل له عن طاجن المكرونة المستورد من الخارج، طالما ينفر من تناوله، ودفع السيدة «جيهان السادات» لتدعو بهاء ليشاطرها تناول طاجن المكرونة.