موسى برهومة

كان مثيراً للانتباه أن يعترض السائق الباكستاني على راكب يضع في أذنيه سماعتين، ويود التوجه إلى جامعته في دبي. عاجله السائق باستنكار: أتستمع للموسيقى؟ فردّ الشاب باستغراب: نعم. زمّ السائق شفتيه. صمت قليلاً، لكنه لم يُطق صبراً: هذا حرام.

الموسيقى حرام. الشياطين الآن تدخل في أذنيك، وبقي طوال الرحلة يهذي بكلمات تشي بالاستنكار وبطلب الاستغفار. ولما وصل الطالب إلى جامعته وقدّم للسائق أجرة التاكسي، رفض السائق استلامها بدعوى أنها «مال حرام»، فألقى الشاب النقود على الكرسي، ثم ترجّل من السيارة، وهو مأهول بالدهشة والغضب.

يتكرّر هذا المشهد باستمرار، متخذاً وجوهاً متعدّدة، لكنها تصبّ في المعنى ذاته الذي يضيّق فسحة التنفّس خارج صناديق التأثيم والتحريم التي أجهزت على روح النصوص المقدّسة وأثخنتها بجراح التأويل.

وصار الناس، أغلبهم، في غمرة هذا «الهياج الإيماني» أقرب إلى تصديق ما يقترب من الأساطير في ما خص القضايا الدينية، مبتعدين عما يثير التفكير ويدعو إلى التأمل والتدبّر وإعمال العقل، كما دعت إلى ذلك النصوص الدينية ذاتها. ولعل تفسير هذه الحالة يقودنا إلى شغف الروح الإنسانية بكل ما هو متعالٍ وخارج نطاق السيطرة البشرية. هنا تعثر النفوس الحائرة على ضالتها: 
من قطع بطاطا ارتسمت عليها كلمة مقدسة، أو من شجرة اتخذ أحد أغصانها شكلاً يوحي بدلالة دينية رسمتها الصدفة المحضة. لكن هيهات للعقل المستلب إلى هذه الظواهر أن يدرك معنى الصدفة المحضة. وليس يدرك المرء ماذا سيكون عليه رد فعل السائق الباكستاني لو حدّثتَه عن المصادفة المحضة!

ولا يأتي ذكر السائق باعتباره صاحب مهنة أقلّ شأناً من سواها، على ما استقر في المخيال الشعبي، فثمة سائقون أحرار في تفكيرهم، إذ إن الأمر ليس مرتبطاً بالمهنة والدرجة العلمية، فهناك أساتذة جامعات متخرجون من جامعات عالمية مرموقة يسوّقون الابتذال والخرافة، ويروّجون لمفاهيم قيمية، في ما خصّ المرأة، تحديداً، تنتسب إلى القرون الوسطى. أحدهم يتحدث، باعتداد وحسم، بأنّ مصافحة الرجل للمرأة تعادل الزنا، ويسوق كلاماً عن سطح يد المرأة المليء بالملايين من الخلايا التي ما إن تلامس الرجل الغريب عنها حتى يسري فيها إحساس الشهوة. وبهذا فهي مذنبة وهو مذنب، بل إنها قد تكاد أن تكون زانية، مستشهدين بحديث يروى عن النبي حول زنا اليد!

وتمتلئ مكتبة «يوتيوب» بالكثير من الفيديوات التي تذهب هذه المذاهب، وتنسج على منوالها، حتى ليخيّل للإنسان أنّ ما من شيء مُحلَّل، وأنّ التأثيم يشمل مناحي الحياة حتى يكاد أن يغمرها. وهذه معضلة لن تحلها قوانين ضبط الفتوى وتحديد مصادرها ومعاقبة المخالفين، كما طالب الأزهر، أخيراً، البرلمان المصري بسنّها.

الناس تنظر إلى الدين باعتباره موئلاً للسلوى ومصدراً للرجاء، فإذا بميليشيات من الفتاوى التي تُخصص لها منابر إعلامية وقنوات تلفزيونية تفيض بتصوّرات عن الدين لا صلة لها أبداً بروح النص، بل تتغذى على هوامشه وتحفر في الحواشي، وتخرج على الناس بما هو مستنكَر ومضاد للطبيعة البشرية والذوق الآدمي، مثل معاشرة الزوجة بعد وفاتها، أو نكاح البهائم.

وحتى يقتنع السائق الباكستاني العتيد الذي لم تغيّر من تفكيره المدنيّة الحديثة بأنّ الموسيقى حلال، وأنها ليست مرادفة للفسق والفجور، يتعين بذل جهد كبير يتوجه إلى ديناميكيات الثقافة، وآليات بناء المعرفة التأسيسية في البيوت والمدارس والجامعات لجهة الانفتاح على فهم ديني متنوّر يتغيّا سعادة الإنسان، وتأثيث روحه بالبهجة. ألم يخبرنا الكاتب الإسكتلندي توماس كارليل: «إذا كانت للملائكة لغة تتحدث بها، فإنها بلا شك الموسيقى»؟!


* كاتب وأكاديمي أردني