محمد السعيد إدريس

أبدت حكومة العراق على مدى الشهور الأخيرة الماضية، منذ أن بدأت تتحقق الانتصارات على تنظيم «داعش» الإرهابي، توجهات جادة لتحقيق توازن في علاقات العراق الإقليمية، وبوضوح أكثر موازنة علاقات العراق العربية، وفي القلب منها الدائرة الأقرب (الخليج ومصر والأردن) مع علاقات العراق بإيران. وتزامن مع هذا التوجه شديد الأهمية، مع توجه آخر داخلي له وزنه الكبير، وهو الطموح إلى تأسيس قاعدة الحكم في العراق بعيداً عن قيود الطائفية والمحاصصة السياسية، والانفتاح على مبدأ المواطنة والديمقراطية الحقيقية. بمعنى آخر تحقيق توازن في إدارة الحكم والسياسة بين كل المكونات الوطنية العراقية، شبيهة بطموح تحقيق التوازن في علاقات العراق مع جواره الإقليمي: العربي- والإيراني.

هذا التوجّه انخرط فيه رئيس الحكومة العراقية حيدر العبادي الذي زار السعودية مرتين، كان آخرهما يوم الأحد 22 أكتوبر/ تشرين الأول الفائت، ضمن جولة إقليمية زار فيها أيضاً مصر والأردن وتركيا وإيران. كما انخرط فيه الزعيم الشيعي القوي، مقتدى الصدر زعيم التيار الصدري، الذي حمل مسؤولية محاربة فساد الحكم ونبذ الطائفية والانفتاح على «العروبة» للهدف نفسه: تحقيق توازن في علاقات العراق بين العرب وإيران، فقد زار السعودية بعد زيارة حيدر العبادي الأولى، ثم زار الإمارات، وزار الأردن في الوقت الذي كان يقوم فيه حيدر العبادي بزيارته الثانية للسعودية، مع ما يؤكد وجود تنسيق وتناغم في التوجه المشترك الذي يدعمه السيد عمار الحكيم أيضاً الذي يترأس التحالف الوطني (الحاكم) في العراق زعيم تيار «الحكمة».

وبأمانة شديدة نستطيع أن نقول إن هناك فريقاً قوياً في بغداد يؤيد هذا التوجه بشقيه: الانفتاح على «الوطنية العراقية» بعيداً عن الطائفية، والانفتاح على العروبة جنباً إلى جنب مع علاقات العراق وارتباطاته المميزة مع إيران. وهناك أيضاً فريق أقوى يرفض هذا التوجّه، وهو الفريق الذي ما زال أسير الانغلاق الطائفي ولم يستوعب الدروس بعد. لم يستوعب مدى الدمار الذي لحق بالعراق وهدّد وحدته الوطنية، بسبب تلك الطائفية السياسية البغيضة التي مزّقت وحدة العراق الوطنية وغذّت تيارات الإرهاب، ولا يأبه بالإجابة عن سؤال: كيف يمكن استعادة وحدة العراق الوطنية بعد محنة «داعش»؟ كيف يمكن منح كل المكونات العراقية الثقة في العيش المشترك، بنفس القدر الذي يطرح بها هذا السؤال نفسه بالنسبة للأكراد بعد «محنة الاستفتاء بالانفصال عن العراق»؟

هذا الفريق الذي يغيّب نفسه بإرادته عن الإجابة عن مثل هذه الأسئلة العراقية المصيرية، هو نفسه الفريق الذي لا يقبل بأي مساس بعلاقة التبعية التي يرضخ لها العراق في علاقته بإيران، ودور الهيمنة الذي تفرضه طهران على بغداد، وهي هيمنة تتسع وتمتد إلى هيمنة «قم»، رمز تشيّع ولاية الفقيه على «النجف»، رمز التشيّع العربي الأصيل. لذلك فإن السؤال الذي يمثل إشكالية حقيقية للعراق الآن، ويتهرّب الجميع من الإجابة عنه بوضوح وشفافية هو: هل يمكن أن يكون العراق صديقاً للسعودية وإيران في الوقت نفسه؟ 

الإجابة يمكن أن تكون «نعم»، ويمكن أن تكون «لا». تكون نعم في حالة وجود مصالح مشتركة ومتوازنة بين العراق وكل من إيران والسعودية، ووجود جماعات مصالح مشتركة تربط العراق بهذين البلدين، وغياب هذه المصالح وهذه الجماعات له علاقة بغياب ديمقراطية السياسة والحكم في العراق، وبسيطرة الفريق الموالي لإيران على السلطة منذ عام 2006 وحتى الآن، حيث تم إقصاء العراق بعيداً عن جواره العربي والخليجي لصالح إيران، وإذا لم يحدث تغيير جوهري داخلي في العراق لصالح ديمقراطية الحكم ودولة المواطنة، سيظل العراق أحادي التوجه نحو إيران.

المشكلة لها أيضاً بُعدها الإقليمي، وما إذا كانت إيران تقبل بالعراق صديقاً أو شريكاً للسعودية، وما إذا كانت السعودية تقبل بالعراق صديقاً وشريكاً لإيران. وعلى ما يبدو أن حيدر العبادي رئيس الحكومة العراقية يدرك مدى حساسيته، لذلك كان تركيزه خلال زيارته لإيران التي جاءت عقب زيارته للسعودية ومصر وتركيا أن «مشروع رؤية العراق لمستقبل المنطقة يدعو إلى تبادل المصالح المشتركة وتحقيق التنمية بدل الحروب والنزاعات»، وهو نفس المعنى الذي قاله في حفل التوقيع على محضر تأسيس «مجلس التنسيق السعودي- العراقي». فقد تحدّث عن التعاون والمصالح المشتركة بين المملكة والعراق، وربطها بشبكة علاقات بمختلف المجالات للإسهام في تحقيق الأمن والاستقرار والتنمية وتوسيع التعاون الأمني والاقتصادي والتجاري والثقافي. وهو بهذا المعنى يربط بين بناء المصالح وبناء الثقة، وهو البناء الذي يبقى معضلة العراق في علاقته بالرياض وطهران، وهو الذي يمكن أن يؤسس لمستقبل عراق ما بعد «داعش».