أحمد علي الحمادي

«إنّ تطبيق الأنظمة بحزم على كل من تطاول على المال العام ولم يحافظ عليه، أو اختلسه، أو أساء استخدام السلطة والنفوذ، إننا نطبق محاربة الفساد على الصغير والكبير ولا نخشى في الله لومة لائم بحزم وعزيمة لا تلين بما يُبرئ ذمتنا أمام الله».. سلمان بن عبد العزيز
تمضي المملكة العربية السعودية بخطوات مباركة وسريعة نحو الإصلاح في كافة مجالاته بوتيرة غير متوقّعة ومذهلة للكثيرين، فالخامس من نوفمبر الجاري بدا يوماً وكأنه خارج الزمن، أضاء فيه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز منارات الحق والعدل على أراضي المملكة، لتنسف بنورها ظلمات الفساد، بعدما شرع مسبقاً في اجتثاث جذور الإرهاب وأصوله المرعبة.
إن الأمر الملكي الذي أصدره سلمان الحزم والعزم، بتشكيل لجنة عُليا برئاسة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان للحصر والتحقيق في قضايا الفساد العام، كان مفاجئاً بل مثيراً ليس في السعودية وحدها بل في الدول العربية والعالم أجمع. فالسرعة والنزاهة والعدل في تطبيق الأمر السامي، كلّها أمور فاجأت الجميع، خاصة أنها شملت أمراً بإيقاف ما يقارب أحد عشر أميراً وعشرات من الوزراء السابقين والحاليين، ما يوضّح أنّ ولي العهد الشاب كان صادقاً في وعده الذي صرّح به من قبل في مقابلة تلفزيونية، وعد فيها بمحاربة الفساد دون استثناءات أو اعتبارات خاصة، إلاّ أنّ الأمر حينما حوى أسماء لأمراء ومسؤولين كبار، جعل ذلك يفوق الخيال والتصوّر بكثير، وبشّر بملامح عصر جديد في العالم العربي، يأمل الجميع فيه بأن تكون تفاصيله أكثر عدلاً وإنصافاً وحفظاً للحقوق.
ردود الأفعال وأصداء ما حدث في السعودية بيّنت مدى الرضى والأمل الذي لامس قلوب السعوديين والعرب، كونه يبشِّر بعهد جديد لا يُستثنى فيه أمير أو وزير أو أي مسؤول كان، مع محاسبة وردع للفاسدين وكلّ من أضرّ بالبلاد وغلّب المصلحة الخاصة على المصلحة العامة.
والحقيقة أن نزع فتيل الفساد هو أول الطريق لتصحيح كل ما ينبغي تصحيحه، فلا يمكنك إصلاح أمر وجذره فاسد، لأنك مهما حاولت إصلاحه وتجميله سينهار يوماً، ليس على المُفسد فقط إنما على الكثيرين من حوله، وتبدو لي سيكولوجية الفساد غريبة جداًّ، فالمفسد الذي لا يفكّر إلاّ بمصلحته الشخصية هو شخص خرج من إطار الحياة والتاريخ والإنسانية، وإلاّ فكيف لإنسان يرضى أن يظل سالكاً طريقاً- يدرك عبر مشاهداته وسمعه وقراءاته وعبر التاريخ والقصص والعبر- أنّ عاقبته ومهما طال الوقت ستكون وخيمة، ولن تعود عليه بالخير أبداً؟
في تاريخنا المعاصر، إن التجربة السنغافورية من أنجح التجارب الدولية في القضاء على الفساد، إذ استطاعت على مدى عقدين من الزمن أن تنتقل من تصنيفها في الستينات كواحدة من أسوأ الدول فساداً حتى باتت تحتل المرتبة الرابعة في أقل الدول فساداً بحسب مؤشر منظمة الشفافية العالمية، وذلك بإرادة وعزيمة أول رئيس لحكومتها وهو «لي كوان يو» باني سنغافورة الحديثة، الذي شرع بمحاربة الفساد بقرار سياسي أطلقه بقوله: «إننا لا ننظر لعملية السيطرة على الفساد على أنها مجرد قضية أخلاقية وليس فضيلة وإنما ضرورة وحاجة»، وكان «لي كوان يو» اتخذ تدابير تأديبية قاسية ضد الفاسدين ضمن سيادة القانون، ورأى - رغم انتقادات الغرب له- أن ما يقوم به من إجراءات هدفها الاستقرار السياسي والتقدّم الاقتصادي لبلاده، ليتمكن فعلاً من نقل سنغافورة من دول العالم الثالث إلى الأول.
إن تجتثّ الفساد من أصله يعني أنك اختصرت المسافات الطويلة والأيام الكثيرة لتحقق العدالة والإنصاف في نفسك ومجتمعك، لذا فليس غريباً هذا القرار الملكي الجريء، طالما نوى خادم الحرمين الشريفين وولي عهده إصلاح الأمر وإحقاق الحق وإعادة الأمور إلى نصابها، وبالتالي ليس غريباً أيضاً أصداء الرضى والتأييد والبهجة التي يعيشها الشعب السعودي، ونراها متجليّة عبر كلماتهم في مواقع التواصل الاجتماعي، متنبئين بعصر جديد رفيع في وعيه، عظيم في إنسانيته، يشعر فيه الجميع بحقوقه، كما يلتزم بمسؤولياته وواجباته، ورغم أنّ العبء النفسي والعملي كبير على خادم الحرمين وولي عهده، خاصة أنه في مواجهة مع أقارب، وأصدقاء، وذوي رحم، إلاّ أنهما اختارا القرار الصعب الذي يليق بإنسانيتهما، وهو ترجيح مصلحة المملكة والشعب والإنسان قبل كل شيء، كي يعيش المواطن السعودي في ظل وطنه آمناً مطمئناً منجزاً ومضيفاً للحياة ومؤثراً فيها، محققاً الخير لنفسه وللعالم أجمع.. حفظ الله الشقيقة الكبرى ومليكها وولي عهده الأمين، وبارك الله جهودهما وأعانهما على الطريق الطويل.