محمد قواص

 لم يكن إطلاق صاروخ باليستي من جانب الحوثيين في اليمن باتجاه العاصمة السعودية تفصيلاً اعتباطياً داخل الحرب التي تخاض. بدا أن الحدث جاء تنفيذاً لقرار من طهران لترهيب أولي الأمر في السعودية من مغبّة تموضع سعودي مستجد ولافت بات في مستوييه العسكري والسياسي يعكس استدارة دولية في مسار يروم إنهاء الاستثناء الإيراني في المنطقة.

أطلقت إيران من اليمن صاروخها الشهير على الرياض. تعرف طهران نفسها مآسي حرب الصواريخ بين المدن، إن اندلعت، وهي التي خبرتها جيداً أثناء الحرب العراقية- الإيرانية. أطلقت طهران صاروخها وتبنته ضمناً على لسان رئيس الجمهورية حسن روحاني، الذي اعتبر أن إطلاقه جاء رداً على «العدوان السعودي» على اليمن، وفق قوله. فهم العالم أن في مضمون ما يقوله روحاني رعاية لـ «صاروخ الحوثيين»، وفهمت طهران لاحقاً أن في ذلك الاعتراف خطأ يشبه الخطيئة وجب التملص منه والمسارعة إلى إزالة آثار اقترافه.

على صدر صفحتها الأولى، عنونت صحيفة «كيهان» واعدة بأن تكون وجهة الصاروخ التالي مدينة دبي. ومن لا يعرف تلك الصحيفة، فهي مقرّبة من التيار المحافظ في إيران وتعبّر عن مزاج الوليّ الفقيه المرشد علي خامنئي وتعكس أجواء الحرس الثوري. حمل ذلك العنوان تهديداً لاحقاً يعترف ضمناً بأن إيران كانت وراء الصاروخ السابق الذي استهدف الرياض. كان في أمر «كيهان» جرعة فائضة اهتزّ لها النظام السياسي في إيران وهرع لإصلاح ما خطّه حبر «الصحيفة» في صدر صفحتها الأولى.

كان لافتاً أن تعاقب طهران صحيفتها الشديدة الولاء على تهويل لا يختلف عن الخطاب التقليدي لساستها. أولم يخرج الرئيس روحاني نفسه بخطاب مهاجم مهدد السعودية، فيه ما لا يختلف عن نزق «كيهان» وبيئتها؟ كان بإمكان روحاني في سجاله مع السعودية أن ينتقد التهديدات التي صدرت عن الرياض ضد إيران قبل وبعد سقوط ما تبقى من صاروخ الحوثيين على مطار الملك خالد في الرياض. وكان بإمكانه أيضاً أن يمعن، كما تفعل منابر طهران كل يوم، في انتقاد الموقف السعودي من المسألة اليمنية والحرب التي تقودها ضد الحوثيين وحلفائهم هناك. لكن أيضاً، ومن دون أن يُظهر ذلك أي ضعف أو تراجع إيراني، أن يدين، ولو نفاقاً، ضرب العاصمة السعودية ويرفض ذلك، لكنه لم يفعل.

وما لم يفعله روحاني سعت إيران إلى ترميمه لاحقاً. كان بإمكان طهران أن تعالج أمر خطيئة «كيهان» من دون ضجيج وأن يُعالَج الأمر من خلال تدبير بيتي داخلي، لكنها آثرت غير ذلك. تولّت إيران إخراج الأمر رسمياً وجهاراً من خلال الإعلان عن قرار صادر عن وزارة الثقافة والإرشاد بوقف الصحيفة عقاباً على ذلك العنوان. اعتبر متن قرار الوزارة في حيثياته المنشورة أن عنوان الصحيفة «يشكل خطراً على الأمن الإيراني والأمن القومي الاستراتيجي».

تعلن إيران للعالم أنها بريئة من تهمة قصف دبي المحتمل، وبالتالي تنفي بتلعثم وارتباك أن تكون راعية لقصف الرياض بالصواريخ قبل ذلك. تدرك طهران أن العالم برمته ينظر بعين غاضبة إلى برنامجها للصواريخ الباليستية بصفته «محرماً» خرج من معطف محرم القنبلة النووية التي تم إجهاضها، أو تأجيل ظهورها. وأما وأن تلك الصواريخ قد ظهرت في اليمن وتلوّح بها «كيهان» ضد دبي، فإن الحدث سيطلق لا شك دفعات من المواقف في العالم أجمع لإجبار طهران على إخضاع البرنامج الباليستي لشروط دولية تم فرضها سابقاً على البرنامج النووي.

يعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الأعراض الأولى لتحوّل أوروبي يلتحق بذلك الأميركي لتحقيق هدفين. الأول محاصرة برنامج إيران الصاروخي. والثاني محاصرة نفوذ إيران الإقليمي. وإذا ما كان موقف باريس كما لندن وبرلين غير مبال بالاستراتيجية الجديدة التي أعلنها الرئيس الأميركي دونالد ترامب لمواجهة إيران، بما في ذلك عدم مصادقته على امتثالها لشروط الاتفاق مع مجموعة الخمس زائداً واحداً، فإن ما سمعه ماكرون في أبو ظبي ودبي وبعد ذلك في الرياض دفعه لـ «اكتشاف» حقيقة جديدة مفادها أن «الاتفاق النووي لم يعد كافياً».

تختلف المؤسسات الساسية والعسكرية والأمنية الأميركية مع ترامب في ملفات عدة، في الداخل والخارج، لكنها مجتمعة حوله في مسألة مواجهة إيران سلوكاً ونفوذاً، وحتى نظاماً سياسياً. وقد يبدو أن دول الاتحاد الأوروبي أيضاً التي أخذت مسافات واضحة من خيارات ترامب في العالم، ذاهبة إلى الالتحاق به بإجماع في المسألة الإيرانية. ليس في الأمر تمنّ أو توهّم، ذلك أن طهران نفسها أدركت هذه التحولات الجارية والمقبلة على نحو يدفعها للجهر بإسكات «كيهان» وتأنيبها.

وقد يبدو أن صاروخ الحوثيين الإيراني، الذي أطلق على العاصمة السعودية، كان رداً على الاستقالة «الصاروخية» لرئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري. تتحرك الرياض في شكل دراماتيكي لافت وغير مسبوق على محاور متعددة. تولّت بنجاح تدشين سياسة وفاق جديدة مع العراق وباتت مركز جذب جديداً ينهي احتكار إيران في هذا البلد. وتولّت في لبنان، وعلى نحو صاعق مفاجئ للحلفاء قبل الخصوم، رفع وتيرة التصعيد ضد «حزب الله» وإيران والنظام السياسي اللبناني برمته بما فهم أنه مأزق يسعى الحزب بحذاقة الى تجنبه. وهذا ناهيك برفع مستويات الضغوط العسكرية في اليمن بحيث باتت المعارك تجرى في الميدان العسكري للعاصمة صنعاء.

وإذا ما كانت طهران في السابق تعتبر أن حراك السعودية تقليدي يمكن استيعابه، فإنها هذه المرة باتت تدرك أن التحوّل السعودي لا يأتي من مزاج سعودي محلي فقط، بل أن الأمر يمثل العلامات الأولى من مشهد دولي شديد التعقيد سيفرج عن علامات أخرى بإيقاعات متصاعدة ومفاجئة لن يكون من الممكن استيعابها.

أرسلت طهران إشاراتها الأولى من خلال موقف الوزارة المعنية في معاقبة صحيفة «كيهان». وهي سترصد جيداً مآلات المعارك حول مدينة البوكمال وغيرها في شرق سورية، وستتأمل إرهاصات ما يتم تداوله عن اتفاق روسي- أميركي حول هذا البلد، وستقرأ توالي العواصم الكبرى على تأكيد أن الحريري ليس محتجزاً وأنه طليق الحركة في السعودية، لتستنتج بسهولة أن العالم، وإن اختلف مع الرياض، فإنه متضامن بإجماع معها ضد طهران.