أ حمد مغربي 

هل قرأت أن صحف الورق ماتت بضربة قاضية من الإعلام الرقمي الجديد؟ هل سمعت أن أكشاك الصحف صارت شواهد قبور الإعلام الورق؟ الأرجح أنك قرأت وسمعت كل ذلك وأكثر. إذاً، تروّ قليلاً. من قلب البلد الصانع لثورة المعلوماتية والاتصالات المتطوّرة، وفي عزّ صعود الرئيس دونالد ترامب، الـ «تويتري» الأول في العالم، جاء رأي آخر.

ليس غريباً أن لين فافريك أستاذة العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا، استخدمت مصطلح «الجرأة» في وصف نتيجة دراسة استمرت 5 سنوات، وأنجزها فريق من علماء الاجتماع في جامعة هارفرد، عن تأثير أكشاك صحف الورق في الرأي العام، بما فيه نقاشات الـ «سوشال ميديا». وخلصت الدراسة التي قادها البروفسور غاري كينغ، إلى أن ما تعرضه أكشاك صحف الورق في أميركا، هي محرّك النقاش العام، بل تستطيع تغيير وجهات نظر الجمهور. ووضعت الدراسة شرطاً أساسياً لقدرة صحف الورق وأكشاكها على قيادة التأثير في الرأي العام هو… الجرأة أيضاً! إذ تبيّن أن الصحف تكون قائدة للنقاشات العامة، بما فيها الشبكات الرقمية للتواصل الاجتماعي، عندما تتناول مواضيع «ساخنة»، بمعنى أن تكون جدالية وخلافية وإشكالية.

وفي أميركا، تقدّم مواضيع كالمناخ والبيئة والعرق والهجرة وحقوق الحمل والإجهاض، نماذج من المسائل الساخنة في النقاش العام، نظراً إلى الانقسامات الحادة المرتبطة بها، سواء في المؤسسة السياسية أو بين الجمهور أو حتى العلماء. نعم. الجرأة الصحافية هي شرط الوصول إلى العيون والعقول. هل هذا شيء جديد؟ ألا يبدو مألوفاً تماماً لمن تمرّس بـ «مهنة البحث عن المتاعب»؟

في أميركا، تحرص أكشاك الصحف على عرض صفحات من الصحف مفرودة أمام أعين العابرين، بما فيها الصفحات الأولى والداخلية. ولاحظت الدراسة أن تقصّي تأثير الصحف في الرأي العام وجمهور الـ «سوشال ميديا» أمر شائك، بل مخادع أحياناً. لذا، اتفّق فريق جامعة هارفرد مع 48 مؤسسة إعلامية على المشاركة في الدراسة على مدار 5 سنوات. وشملت أكشاك الصحف بأنواعها، من الصغيرة التي تعرض صحفاً محليّة أساسيّة، إلى الأكشاك الكبرى الموجودة في مدن رئيسية وتعرض صفحات صحف كبرى. ويراوح عدد مطالعة تلك الصفحات بين 200 ألف ومليونين شهرياً.

ورصدت الدراسة رأي الجمهور الإلكتروني عبر متابعة التغريدات المتصلة بالمواضيع التي عرضتها الأكشاك. ولاحظت زيادة التغريدات بما يزيد على 60 في المئة في الأسبوع التالي بالنسبة إلى المواضيع التي عمدت الأكشاك المشاركة في التجربة إلى عرضها. وكذلك كتب الجمهور الأميركي قرابة 13 ألف تدوينة على الـ «سوشال ميديا»، اتصالاً بتلك المواضيع في الأيام الخمسة التي تلت عرضها في الأكشاك.

ورصدت الزيادة أن الصحف الصغيرة تستطيع أن تبدّل رأي الجمهور لمصلحتها بقرابة 2.3 في المئة، وهو أمر ليس يسيراً في ظل الانقسام الحاد حاضراً. ولعل الأشد تأثيراً في خلاصات الدراسة، يتعلق بأن الصحف الكبرى كـ «نيويورك تايمز» تستطيع أن ترفع اهتمام الجمهور بقرابة 300 في المئة في يوم واحد، عندما تتناول مواضيع ساخنة، لكنها لا تكون موضع تداول دائم، على غرار تأثير الحفر بالتكسير لاستخراج الغاز في المياه الجوفية والجارية.

واستناداً إلى تلك الدراسة، يزمع الفريق الجامعي نفسه على طرق مناحٍ أخرى لتأثير الصحف في الرأي العام، كالأثر الذي يمكن أن يحدثه تحقيق صحافي استقصائي، مثل «أوراق بنما» عن ثروات الأثرياء المتهربين من الضرائب، الذي نال «جائزة بوليتزر» الصحافية المرموقة، لكن لم تظهر دراسة عن تأثيره في الرأي العام فعليّاً.

وهناك بُعد آخر لهذا النوع من الدراسات، يتعلّق بالديموقراطية ذاتها، لأنها نظام يعتمد على وجود جمهور مطّلع كفاية على الشأن العام، وهو أمر يفترض أنه في صلب عمل الصحف والإعلام العام. ما هي الرسائل التي تحملها تلك الدراسة وغيرها إلى الإعلام العربي بعيداً من النقاش المتخشّب عن الورقي والرقمي؟