ياسر الغسلان

كل ما فيها عجيب جميل شاعري سريالي فاخر، حتى هوائها الذي يستنشقه الإنسان منها فيه القدرة على أن يحول الغجري إلى أرستقراطي، والإنسان العاقل إلى بوهيمي فوضوي جاحد بكل ألوان الطيف وتلوناته.
لا يمكن أن أكتب فيها بلغة العقل، فالعقل في جوارها يصبح جنونا من جبال، ولا يمكن أن أتوسدها أرضا، فأرضها قطعة من السماء احتضنت جنة كل الأديان ومطهر كل الذنوب وجحيم شياطين من إنس وجان، ارتسمت على محياهم قبلات وأوشام ثورية من زمن الفينيق وأبناء آلهات أسطورية.
أنت حيث كل شيء فيك انعكاس لتناقضك، وكل ما منك مجرد لحظات عابرة تنتظر مرور الزمان ليتجمد الخلود على خصلات شقراء سكنت جبلا أبناؤه عرب وأجدادهم عجم، وأبناء عمومتهم من تلك القبيلة وتلك، لا تزاوج بينهم، فأرضها بإمكانها أن تنبت أبناءها وقادرة على أن تبث فيهم روح الأرز المقدس.
لبنان يا أرض العجب، ويا أرض الفرح الممزوج بكلمات فيروز وصيحات جبران ونبيّه المختلق، يا كل الكلمات العتيقة وكل الأيام التي سرقت من رصيد عمرنا أجمل ثوانيه، كم أنت رائعة وهادئة وخجولة، وثائرة ثورة الحليم إن تحول لملهم ألحان وترانيم أبدية.
أنت الألوان ولا وصف لك سوى الألوان، بل أنت الكلمات واللغة، بل أنت آية ربانية خلقها الله ليعلم بني البشر أن الإيمان بالتنوع سمة بشرية وحيها أرقى منه، وأن حتى الإنسان بإمكانه أن يرتقي بروحه لدرجة الكمال الناقص.
بيروت يا مدينة الإنسان كما هو على حقيقته لا كما اختلق في مخيلة منافقي الأزمنة، يا شوارع المدينة الأبدية حيث تختبئ الشياطين وتستنهض الملائكة، يا مرتع العشاق والرهبان والمحاربين، يا مدرسة التعايش والظلم والعهر السياسي، يا زهرة قطفت عذريتها لتنثر على جماجم أطفال تضحك في وجه المدافع، ويا قصيدة رثاء نسجت على فستان فتاة الجبل ليلة دخولها على عريسها المحتجب.
لم أكن أبدا ممن يؤمنون بأن الوجوه لها انعكاسات سرمدية، فكل ما فينا يبدأ حين نولد إلا وجه تلك التي مرت كطيف خلف جدار حائط منزل جدتها، فأشجار القرى البسيطة تستطيع أن تمسك بالزمن، وبإمكانها أن تعتقل الخلود وتعيد تشكيل ملامح العصور، فقليل من براءتها كان الأساس الذي خلق منه سرمدية جمال بلد بكامله.
الحكمة البشرية أحبتي ليست بضاعة كل البشر، والإنسانية ليست بالضرورة صفة كل بني البشر، فالتعامل مع موبقات الشعوب تحتاج لتلك النوعية النادرة من الملهمين الذين يعلمون كيف تسحب الخيوط المندسة من قلب الحرير، وكيف تصفي الماء من جراثيم الطبيعة، فلا تحزني يا جنة التنوع، فموعدك مع الطهارة سيعود، والغيمة التي جثمت على محيا أرضك ستزول، فأقدار الإنسان تتجلى مع نهوض الإنسان ليحرق بإصراره أحزاب الشيطان.