مرام مكاوي 

كل واحد فينا مطالب بالتصدي للفساد، في نفسه وأهل بيته أولا، ثم في مجتمعه وبيئة عمله. فليحاسب المرء نفسه قبل أن يُحاسَب. فمفتش الدنيا قد يغفل عنك، لكن كيف ستنجو من حساب يوم الحساب؟

استبشر كثير من المواطنين بما أُعلن الأسبوع الماضي من عزم الدولة محاربة الفساد بشكل صارم وعملي. 
فسمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، كان قد ذكر ذلك سلفا في حديث متلفز، «أن الفساد لن يستثني أحدا»، وبدأنا نرى هذه الأيام التطبيق الفعلي لكلامه. 
وأكاد أجزم بأن القلق بل الرهاب هو ما يسيطر على نفوس وعقول وقلوب كثير من الفاسدين والسُراق والمنتفعين والنصابين. 
فهم يعرفون أنه لو فُتحت الدفاتر القديمة بأثر رجعي، لخسروا كل شيء، ابتداء من المال الحرام وانتهاء بالسمعة الحسنة والمكانة الاجتماعية غير المستحقة. 
ولكن، هل الفساد الذي وجبت محاربته هو فقط فساد المال؟ وفساد خاص بطبقة الأثرياء والمتنفذين؟
واقع الحال يؤكد أن الفساد له أكثر من شكل ولون وطعم، وأن كثيرين متورطون فيه بشكل مباشر أو غير مباشر. 
وللأسف، بعض أنواع الفساد على وضوحه وفداحة الظلم المترتب عليه، إلا أنه من النوع الذي يصعب أن تثبته في جلسة تحقيق أو محاكمة. فكيف يمكن أن يكون أحدنا، نحن الناس العاديين، متورطا في الفساد؟
الوساطات بكل أنواعها، إن لم تكن شفاعة حسنة لرفع ظلم أو تحصيل حق، فهي فساد كبير، تسبب في حرمان الآلاف من وظائف، أو كراسي جامعية، أو بعثات تعليمية، أو فرص تدريبية وتطويرية، وهذا النوع من الفساد يكون في أحيان كثيرة مدفوعا ليس بالمصلحة المباشرة، وإنما قد يكون بنيّة طيبة وهي «الفزعة» للأقارب والأرحام والجيران والأصدقاء، لكن، إن تسببت هذه الفزعة في حرمان من هو مستحق فهذه النية الطيبة لا تعود نافعة بل هي شديدة الضرر.
من الفساد أيضا، تعمّد تقصير المرء في عمله، إما مدفوعا بالكسل وحده، أو لتحصيل منفعة كلجوء الطالب إلى أخذ درس خصوصي عند الأستاذ، لأنه لا يشرح جيدا. أو اضطرار الطالب الجامعي إلى شراء ملخصات وكتب الأستاذ نفسه، إن كان يرغب في النجاح، 
أو أن يسرق الأستاذ الجامعي أبحاث طلبته ويجيرها تماما لنفسه. 
والحقيقة، أن فساد المعلم في المدرسة أو الجامعة، هو من أسوأ أنواع الفساد، لأنه فوق المشكلات المادية التي يسببها، فهو مدمر معنويا، لأنه يكسر هيبة واحترام الأستاذ لدى الطلبة، فينشأ جيل حاقد وناقم وبلا قدوة.
ولا أسوأ من المعلم الفاسد إلا الطبيب الفاسد، هو ذلك الذي يهمل مرضاه، ويتأخر على عيادته، إذا كان يعمل في مستشفى حكومي، ولكنه يتصرف بغاية الرقة واللطف والمهنية والالتزام حينما يستقبل المرضى أنفسهم في عيادته الخاصة، أو في مستشفى 5 نجوم، مقابل مبالغ فلكية. هو ذلك الذي يقولها بصراحة وبرود لمريض يتميز من الألم: «لا توجد مواعيد هنا إلا بعد 6 أشهر، لكن يمكنني استقبالكم في مكان آخر فورا»! وما يفعله غير مقبول -بغض النظر عن مستوى المريض المادي أو الاجتماعي- لأن فيه استغلالا لحاجة الناس، لكنه ينزل إلى درجة أدنى من الوضاعة حين يقولها لمريض بادية على وجهه وثيابه علامات العوز والحاجة. هذا إنْ افترضنا أنه طبيب جيد ولكنه استغلالي، الأسوأ أن يكون طبيبا سيئا وفوقها استغلالي، فيكون قد جمع الطامتين. وبعكس المعلم فإن الخسارة المادية هنا أكبر، لأن الإنسان قد يخسر حياته بسبب الإهمال الطبي من الأطباء السماسرة.
هناك أيضا التجار وأصحاب الأعمال الذين يدلسون في المواد الغذائية، ويجعلون الإنسان يشتري السموم بـ»حُرّ ماله»، أو المقاولين والمهندسين ممن يغشون في مواد البناء والتشطيبات، فالمواطن المسكين الذي دفع «تحويشة» عمره مع قرض من البنك ليشتري بيت العمر، قد يكتشف في جدة مثلا أنه اشترى مسبح العمر! فما أسرع ما تداعى المنزل وخر السقف مع أول قطرة مطر، بل ومن دون الأفكار فإن تمديدات المياه الرديئة قد أغرقته.
كذلك الموظفون في المرافق الحيوية، كشركات المياه والكهرباء والاتصالات وغيرها، ممن يستطيعون تسريع أو تأخير -إلى ما شاء الله- وصول الخدمات الأساسية لطالبيها ومحتاجيها، وذلك أحيانا لتحقيق منافع نقدية أو عينيه.
الفساد أيضا، هو أن يتوظف في الجامعة والمؤسسات الحكومية عامة، من ليس أهلا لها، وإنما من يوصله لقبه بها، وبعد أن يتوظف تُفرش له الورود ليصل إلى أعلى المراتب والمناصب، على حساب الأجدر والأقدر والأكفأ، فيهمش المميز ويبرز المتواضع، إما لمصلحة مباشر لمن بيده الأمر، أو لكراهية «أو خوف!» بسبب أو من دون سبب للشخص الأنسب لهذا المنصب. 
ومن أنواع الفساد البشعة، هو ذلك الذي يتحقق عبر تدمير سمعة الآخرين والتحريض عليهم، وممارسة كل أساليب التدليس والكذب والافتراء. وللأسف، نحن في عصر يتيح للمرء أن يسيء إلى الآخرين وهو يختبئ بجبن خلف لوحة المفاتيح. 
فكل الأدوات التقنية تتيح لك القيام بعملية اغتيال شخصية معنوية بسهولة مطلقة عبر «حملة تلطيخ»، وهو ما يعرف في الغرب بـ»smearing campaign»، ويستخدمها بعض السياسيين ضد خصومهم في الانتخابات المهمة، ولكنها باتت تستخدم لدينا للأسف للإساءة إلى الأفراد العاديين، أو لمن لديهم شعبية في مجتمعهم. 
ونظرة واحدة على الوسوم «الهشتاقات» اليومية سنجد أنه قلما يمر يوم لا يتعرض فيه شخص لحملة تنمر إلكترونية جماعية لأسباب واهية، كالاختلاف في الرأي، أو التباين الفكري، أو لأسباب عنصرية، أو تنافسية، أو حتى لمجرد الحقد والحسد.
من السهل والمريح التفكير في الفساد على أنه شيء لا علاقة لنا به، فهو خاص بالأثرياء وعِلية القوم، وبالتالي يقع على عاتق الدولة وحدها، ممثلة في أشرعتها التنظيمية والتشريعية والتنفيذية، التصدي له. لكن الحقيقة تقول إن كل واحد فينا مطالب بالتصدي للفساد، في نفسه وأهل بيته أولا، ثم في مجتمعه وبيئة عمله وحياته. 
فليحاسب المرء نفسه قبل أن يُحاسَب. فمفتش الدنيا قد يغفل عنك، لكن كيف ستنجو من حساب يوم الحساب؟