محمد المختار الفال 

 الحضور الإعلامي في الرحلة التجريبية لقطار مكة - جدة صباح الإثنين الماضي، كشف حقيقة الفروق بين الإعلام التقليدي والإعلام الجديد، والاختلاف بين طبيعة ومهمات قيادات الإعلام القديد والجديد.

كانت قيادات الإعلام الجديد «الشابة» حاضرة بهواتفها الذكية وتنقلاتها السريعة، وحرصها على مشاركة متابعيها تفاصيل الحدث من ساحة الانتظار وتوافد المشاركين وتململ البعض وانطباعاتهم، إلى مصاحبة انطلاق القطار من محطة السليمانية بجدة إلى محطة الرصيفة في مكة المكرمة، بتفاصيلها الدقيقة، سرعة القطار في المنعطفات والمنحنيات وعبور الأودية والجسور المعلقة، إلى ألوان الكراسي وسعة المقصورات وأماكن حقائب المسافرين ومتعلقاتهم، وهل تستوعب ما يحمله الحجاج والمعتمرون عادة من طرود كبيرة الحجم.

كانت قيادات الإعلام الجديد هي التي تقوم بالتغطية الحية، وليس محررون متدربون يعتمدون على ما تبثه وكالة الأنباء السعودية من تقارير وصور، كانت القيادات الشابة تتحرك بنشاط وهمة بين الحضور، يلتقطون الملاحظات ويأخذون الانطباعات من دون «فلترة» أو توجيه، بل يتركون صاحب الانطباع على طبيعته التلقائية، فتأتي أفكاره «طازجة» تظهر الفروق بين اهتمامات الناس وقدراتهم على التعبير عن أفكار بصورة طبيعية غير متكلفة. وكان الإعلام التقليدي ممثلاً بطريقته. محررو الصفحات المحلية غير المتعجلين يتأملون المشهد ويسجلون ملاحظاتهم، ويتحسر المهنيون منهم لما يرون من بث مباشر على وسائل التواصل الاجتماعي، وهم لا يستطيعون الالتقاء بقرائهم إلا صباح اليوم الثاني، بعد أن يكونوا شاهدوا وسمعوا التفاصيل، ولم يبق إلا ما يهم «قراء التفاصيل»، الذين يتناقص عددهم مع سرعة إيقاع المعلومات وكثرتها وصعوبة استيعابها.

هذه الصورة الفارقة بين فعالية الإعلام الجديد والإعلام القديم عبّر عن نتيجتها بعفوية صادقة رئيس تحرير الصحيفة الورقية الوحيد الذي شارك في المناسبة حين التفت إلى أحد كبار الضيوف قائلاً: «كل هؤلاء الذين تراهم (سنابات) فكيف يمكننا أن ننافسهم»؟

وكان هذا التعبير العفوي الواقعي من الزميل رئيس التحرير فاتحة لحوار امتد على طول الطريق من محطة الرصيفة في مكة حتى النزول في محطة السليمانية بجدة، ولم ينته إلى ما يحسن السكوت عليه، فقد أثار من الأسئلة أكثر مما قدم من الأجوبة، لأنه حديث ذو شجون حول هموم وتفاصيل مرحلة امتدت عقوداً، وعبرت زمن الانتقال من صحافة الأفراد إلى عصر المؤسسات وما شهده من نجاحات أوصلت البعض إلى عصر الإعلام الإلكتروني، متربعاً على القمة، في حين أبقت الإخفاقات البعض على حافة الهاوية، حتى أدركته طفرة شبكات التواصل الاجتماعي لتزيد من أوجاعه وهمومه.

ومن وحي أسئلة الرحلة نبعت هذه السطور تمسّكاً بقناعة مُؤداها؛ أن «الناجحين» قادرون على التطوير، إذا أدركوا طبيعة التحديات، وحددوا الأهداف، وأسرعوا إلى التكيف مع حاجات المتلقي، بغض النظر عن الوسيلة المستخدمة في الوصول إليه.

والأسئلة المطروحة والمناقشات الدائرة حول آليات «تعايش» الوسائل الإعلامية، تؤكد أن المستحدثة لا «تبيد» ما قبلها، إلا إذا عجزت عن التكيّف مع العصر، وانصرفت عن الموضوع الرئيس وهو «المحتوى»، فالإنسان هو الإنسان، في كل العصور، بفطرته التي تبحث عن الجديد والمثير والمفيد والممتع والمدهش، فإذا استطاعت الوسائل القديمة «تكييف» محتواها وبلورة مضمونها المستجيب لذوق العصر، فهي ستظل حية مطلوبة، وليس معنى ذلك دعوتها للتخلي عن «رسالتها وأهدافها» الأساسية، بل المطلوب هو إعادة «إنتاج» تلك الرسائل والأهداف بصيغ جاذبة، تمكِّنها من الاحتفاظ بالجمهور المستهدف، وفي هذا السياق، تبدو نظرية «النشوء والتعايش التكاملي» وجهة نظر مقبولة، حين ترتكز على مفهوم «علم الأحياء التطورية»، التي ترى أن العلاقة بين الصحافة الورقية والإعلام الإلكتروني تقوم على أنه لا يمكن لأحدهما أن يعيش من دون وجود الآخر، باعتبارهما خليتين طبيعيتين. وهذه النزعة «النفعية» تشكل أرضية للتفاهم بين الوسائل، فالصحافة الورقية بعراقتها وخبرتها ومخزونها من المعرفة والمعلومات ورصيدها من ثقة القراء ومراكز التأثير السياسي والاقتصادي والثقافي، يمكنها أن توفّر على الصحافة الإلكترونية الوقت والجهد والمعرفة، للتواصل مع الجمهور المستهدف، والاقتراب من مزاجه وحاجته، كما أن الصحافة الإلكترونية، برشاقتها وسرعة إيقاعها وقدرتها على الاختصار والوصول إلى المتلقي في أي وقت وأي مكان، ستكون «وعاء» جيداً لإيصال «محتوى» الورقية بعد تهذيبه وتخليصه من التطويل والحشو الطارد لمزاج الإنسان في عصر السرعة.

ومن مظاهر اختلاف البيئة التي يعمل فيها الإعلام القديم عن طبيعة الإعلام الجديد، أن رؤساء التحرير، قبل انفجار الإعلام الإلكتروني، كانوا يعرفون منافسيهم وجمهورهم وجغرافية انتشاره، وكانوا يتمتعون «بامتياز المكان»، الذي لا يصل إليه المنافسون إلا متأخرين أو بتكاليف زائدة، وحتى التنافس في المنطقة الواحدة كان من السهل على قيادات الصحف، بحسب سياساتهم، «اختيار» شريحة عمرية أو اجتماعية للاختصاص بها والاهتمام بما يشغلها أو يجذبها دون غيرها، لكن هذه «الميزة» تبخّرت بعد طلوع شمس الإعلام الجديد الذي أفقد «المكان» ميزته، بل وجوده، حين انتشرت وسائله لتكون في أيدي كل الأجيال في اللحظة الواحدة، بكل ما يمتاز به الإعلام الجديد من سرعة واختصار وإبهار بالصوت والصورة.

نشرت «الحياة» الثلثاء 14 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، نتائج دراسة علمية عن دور الصحافة الورقية ومستقبلها وقدرتها على مواجهة الصراع مع الإعلام الجديد، أجريت على مدى خمس سنوات في جامعة هارفارد الشهيرة، وانتهت إلى أن «ما تعرضه أكشاك الصحف الورقية في أميركا هو محرك النقاش، بل تستطيع تغيير وجهات نظر الجمهور»، ولكن الدراسة وضعت «شرطاً» لهذا الإمكان، وهو «الجرأة». وقالت «إن الصحافة الورقية تستطيع أن تكون (قائدة) للنقاشات المطروحة بما فيها وسائل التواصل، إذا اهتمت بالقضايا الساخنة، وعالجتها بجرأة».

ومن الواضح أن «الجرأة» المشروطة متصلة مباشرة بقضية حرية النقاش والقوانين الحاكمة لوسائل الإعلام، فهي «البيئة» الحاضنة التي تمكّن الإعلام التقليدي من أن يظل «صانعاً» للرأي العام، وقائداً لوسائل التواصل الاجتماعي، ومرشداً لفعاليتها وتأثيرها. وهي الجرأة الموضوعية التي تقدّر المعلومات، وتحترم عقل المتلقي، وتساعده على فهم ما يجري من حوله من أحداث، من دون مبالغة أو تزييف أو تعمية.

وأعتقد أن المؤسسات الصحافية مطالبة بالتحرك السريع، لتحديد أسباب تراجع حضور وسائلها، وانصراف الشباب عن الإقبال عليها، ولديها فرصة استعادة مكانتها في هذا الظرف، الذي تخوض فيه بلادنا معارك كبرى على المستويين الداخلي والخارجي، وكلها قضايا مثيرة تجلب تفاصيلها اهتمام الناس، وتمنح الصحافة الورقية الفرصة لاستعادة مكانتها «قائدة» للنقاشات المحركة للرأي العام، وهي تتمتع بثقة صانع القرار السياسي والاقتصادي.