حافظ البرغوثي


عندما تسلّم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الحكم، كانت أمامه تحديات وتهديدات جمّة، ليس من بينها القضية الفلسطينية. كانت هناك مسألة الصواريخ والقنابل النووية الكورية الشمالية والأزمة الأوكرانية والحرب في سوريا والعراق والملف النووي الإيراني وأفغانستان، والعلاقة المضطربة مع روسيا والمكسيك. كل هذه الأزمات والتحدّيات لم يضع حلولاً لها إلا بالتسكين أو الهروب، فتفاقمت الحرب في أفغانستان وازداد التورط العسكري هناك بالمقارنة مع الوضع أيام أوباما، وتراجعت واشنطن في الحملة ضد الإرهاب في سوريا، وفضّلت تبنّي القوات الكردية كمكمل لإقليم كردستان العراقي، باعتبار أن واشنطن كانت تخطط سراً لدولة كردية تضم شمال شرقي سوريا مع الشمال العراقي، وقد فشل هذا المشروع من داخله بعد استفتاء كردستان العراق، بسبب الانقسام الداخلي حوله وموقف بغداد الحاسم منه، وسيفشل في سوريا مع تقدّم قوات النظام وتفسّخ المعارضة أو العمل على احتوائها ضمن منظومة الآستانة، وباتت روسيا اللاعب الأقوى في سوريا. 
كما تضعضع التحالف التركي -الأمريكي بل والأوروبي، وحمل في طيّاته بذور عداء متصاعد. أما بخصوص إيران، فإن الهجوم الأمريكي على إيران يبدو أعرج ولفظياً أكثر منه عملياً، وتقزّمت الأزمة الأوكرانية لصالح روسيا، وتجذّر المحور الروسي الإقليمي، وتحاول إيران إعادة العلاقات التحالفية مع حماس في غزة إلى سابق عهدها لتكون موطئ قدم لها في المنطقة. وفي الأزمة الكورية نجدها مترددة بين الزعيق الكلامي والتهديد غير المخيف، فترتفع حدة الصراع تارة وتنخفض تارة أخرى. بمعنى آخر إن سياسة ترامب لم تحسم أياً من الملفات والأزمات، لكنها في هذا السياق أولت قضية الصراع «الإسرائيلي» - الفلسطيني اهتماماً خاصاً، ليشكل بوابة توطين ل «إسرائيل» في منظومة الإقليم، وسعت إلى فلسطنة الصراع أولاً وعزله عن امتداده العربي، وكأن فلسطين خارج نطاق المنطقة، والفلسطينيين ليسوا عرباً، ولهذا حاولت تعويم القضية أولاً في الإقليم، وكأنها جزء من المشكلة وليست كل المشكلة، ثم تذويب القضية ضمن أفكار تدخل في نطاق ما يسمى بمصطلح ما فوق الحقيقة، أي ضمن تصورات غير واقعية تستند في سياستها إلى ترديد المزاعم عن القضية الفلسطينية، مرفقة بالأكاذيب، فتتحوّل إلى مسلمات فوق النقاش. وتحت هذا المصطلح تم شن حروب مثل العدوان على العراق وتمزيقه وحملة التخويف من الإسلام والمسلمين، وتحته أيضاً نجح ترامب في حملته الانتخابية حتى باتت من المسلمات التي يتقبلها العامة دون نقاش. 
لعل إقدام واشنطن على إغلاق مكتب منظمة التحرير في واشنطن يندرج في إطار محاولة إنجاز شيء من إدارة عاجزة دولياً. فالحلقة الفلسطينية هي الأضعف عربياً ودولياً، والإغلاق يعني إنذاراً للفلسطينيين لكي يكفّوا عن اللعب على الساحة الدولية لنيل الاعتراف، والكف عن تقديم ملفات للجزائية الدولية لمحاكمة مسؤولين «إسرائيليين» ارتكبوا جرائم حرب، والكف عن الحديث عن دولة ذات سيادة وحدود وهوية مستقلة. فقد توجّس الفلسطينيون خيفة من جولات المبعوثين الأمريكيين المتتالية، حيث كانوا يرددون الكلام نفسه والأسئلة نفسها ويستمعون إلى الأجوبة نفسها ولا يحركون ساكناً تجاه الاستيطان وممارسات الاحتلال، ويتفادون نطق عبارة حل الدولتين، بينما تتسرّب عن طريقهم معلومات إعلامية «إسرائيلية» عن حل هو أقل من دولة، أي حكم ذاتي موسع من دون أية سيادة أو حدود، عنوانه مساعدات تدفعها دول عربية للسلطة لتحسين الوضع الاقتصادي، وكأن القضية الفلسطينية قضية حياتية وليست وطنية، ولذلك كفّت القيادة الفلسطينية عن استقبال المبعوثين الأمريكيين، لأنهم يأتونها بمطالب «إسرائيلية» فقط، كوقف الدعم لأسر الشهداء والأسرى الفلسطينيين، بينما يصرح المبعوثون بضرورة إفراج حماس عمن لديها من أسرى «إسرائيليين»، إضافة إلى تعاطف المبعوثين مع المستوطنين والتزامهم الصمت إزاء التوسع الاستيطاني في القدس وغيرها، وسن قوانين «إسرائيلية» تتيح مصادرة الأراضي الخاصة لصالح المستوطنات الخ..من الإجراءات «الإسرائيلية» التوسعية. 
يبدو أن الإدارة الحالية أعطت حكومة نتنياهو ما يكفي من الوقت لكي تقوم بما تراه مناسباً للاستيطان، مثل حكومة بوش التي منحت شارون مئة يوم من القمع لكي ينهي الانتفاضة الثانية، لكي تتدخل بعدها واشنطن وتفرض إملاءاتها، وهذا ما يحدث حالياً، حيث فرغت حكومة نتنياهو من عملها وعملت كل ما من شأنه منع قيام دولة فلسطينية مترابطة الأجزاء، وتستعد الإدارة الأمريكية لطرح أفكارها عما يسمى «صفقة القرن»، لكنها كما يبدو لن تخرج عن المفهوم «الإسرائيلي» للحل، باستثناء إطلاق اسم دولة على السلطة، لكنها صيغة من الحكم الذاتي بلا حدود، باعتبار أن الإدارة الأمريكية تعلن صباح مساء أنها ستأخذ الاعتبارات الأمنية «الإسرائيلية» بعين الاعتبار، وهذه الاعتبارات تشمل السيطرة على ثلث الضفة وكل الحدود والمعابر وتأجيل موضوع القدس وإلغاء حق العودة، ومنح «إسرائيل» شهادة براءة من التسبب بالكارثة الفلسطينية. فبعد مئة سنة من وعد بلفور كنا نتوقع وعداً مماثلاً بقيام دولة فلسطينية، فإذ بنا أمام وعد جديد قيد التبلور يبرّئ «إسرائيل» من الدم الفلسطيني ويصفّي القضية الفلسطينية. لكن ليس كل ما تريده واشنطن يحدث، والشواهد كثيرة، لعل أهمها أن الفلسطيني سيبقى متمسكاً بحقوقه.