حروب الجيل الرابع.. قنبلة الفوضى وخيارات الشعوب

حمد المانع

ما ينبغي أن نفطن إليه جميعاً أن هجمات الجيل الرابع من الحروب لا تنتهي، وأنها تتكرر في محاولات مستميتة للنفاذ إلى داخل المجتمع واختراق نسيجه مستغلة كل فرصة لتهييج الناس وتأليبهم على حكامهم..

بعد تاريخ طويل من الصراعات العسكرية، شهد واحدة من أسوأ النهايات للحروب تجسدت في إلقاء القنبلة الذرية على مدينتي ناغازاكي وهيروشيما اليابانيتين، بدأ العالم من ناحية يكثف جهوده على أسلحة الردع النووي، حتى تأمن كل قوة بأس الأخرى، لكن بناء ترسانات الأسلحة النووية مكلفة، أيضاً المعارك التقليدية تستنزف مقدرات الأمم وقد تستنزف أجيالاً من أبنائها تأكلهم الحروب، فضلا عن أن عواقبها قد تكون وخيمة، لذا تفتقت أذهان المفكرين الاستراتيجيين في عالم السياسة عن حرب من نوع جديد، حروب زهيدة التكلفة، بل قد لا تكون مكلفة على الإطلاق، إذا ما قيست بتكلفة الحروب التقليدية، وفي الوقت نفسه مضمونة النتائج، هي حروب الجيل الرابع التي تجند من خلالها استخبارات الجهات المعادية لجاناً إلكترونية على الشبكة العالمية مهمتها إثارة الشائعات وصناعة فوضى الرأي على شبكات التواصل الاجتماعي بين شعوب الدول المستهدفة، وإثارة الخلافات المذهبية والعرقية والسياسية والوقيعة بين الحكام والشعوب تمهيداً لمشهد الفوضى الكبير الذي يدار تحت اسم الثورة، وليس أدل على ذلك من السيناريو الذي شاهدناه يتكرر مرحلة بمرحلة في أكثر من دولة عربية، انتهى بانزلاقها جميعاً إلى قاع سحيقة من الصراعات لا تستطيع أن تتبين فيها من يتعارك مع من، ومن يضرب من، ومن حليف من، لكن بإمكانك أن ترى بوضوح فوضى بلا حدود، وأوطاناً ممزقة، لا يبدو أمل لعودتها في القريب المنظور بعد أن اتسع الخرق على الراقع، وتمزقت أوصال بعضها تماماً، فلم تعد دولة من التي جرفها مد الفوضى، اللهم إلا دولتان بالكاد تماسكتا، لكن بعد أضرار فادحة بمقدراتهما الوطنية واستقرارهما.

إن محاولات اختراق الدول والمجتمعات لهدمها بسلاح الفوضى ليست مقتصرة على المنطقة العربية وحسب، هناك عدد من دول العالم، يقاوم مثل هذا النوع من الهجمات الذي أصبح، على ما يبدو، سلاحاً فعالاً في أجهزة الاستخبارات ترهق به الدول العدوة المستهدفة، وتربكها، على الأقل، إن لم تنجح في تمزيقها، ولا سيما بعدما فطنت الدول لهذا السلاح وبدأت تتخذ احتياطاتها لمواجهته، وأيضاً بدأت تفطن له الشعوب. ولعلي في هذا المقام يجدر بي أن أستدعي مشهدا لا ينسى للشعب السعودي إبان هياج ما سمي بثورات الربيع العربي، حين خرجت جموع الشعب إلى الشوارع تهتف لقيادتها وتعلن على مرأى ومسمع من العالم ولاءها لولاة أمرها والتفافها حول قيادتها؛ حتى تقطع الطريق على كل من تسول له نفسه تنفيذ سيناريو فوضى مشابه في بلادنا.

لكن ما ينبغي أن نفطن إليه جميعاً أن هجمات الجيل الرابع من الحروب لا تنتهي، وأنها تتكرر في محاولات مستميتة للنفاذ إلى داخل المجتمع واختراق نسيجه مستغلة كل فرصة لتهييج الناس وتأليبهم على حكامهم وشحنهم طوال الوقت بمشاعر الغضب المتراكم والمتنامي لتثويرهم، هذا ما ينبغي أن نتنبه إليه جميعاً، وعلينا أن نتنبه إلى أن هذا النوع من الحروب، وإن كان يدار من خلال لجان إلكترونية عالية التدريب والدراية، إلا أن دور هذه اللجان أن تشعل دائماً الشرارة الأولى، ثم يبدأ بعدها دور أفراد المجتمع على شبكات التواصل الاجتماعي، حين ينفخون في هذه الشرارة فيصنعون منها حريقاً كبيراً، لا قدر الله.

لا نقول أبداً إن على أحدنا أن يصمت عن المشاركة برأيه في أي شأن اجتماعي، ولا يتطلع أحد لتكميم أفواه الناس، وأولنا ولاة الأمر الذين يحتاجون إلى التفاعل الاجتماعي مع كل مستجد من المستجدات ليقيسوا مدى رضاء الناس، وأيضاً ليعرفوا احتياجاتهم منهم، لا من خلال الأجهزة المعنية وحسب، لكن ما نتطلع إليه ونرجوه أن نمارس هذا الحق بوعي وبمسؤولية، ومن دون أن نبالغ في ردة فعلنا، ومن دون أن نتجاوز، وأيضاً من دون أن يخوض أحدنا في كل شيء، ما يعرف وما لا يعرف، والأخطر من هذا وذاك أن نتبنى وجهات نظر الآخرين ومنشوراتهم ونروج لها قبل أن نمررها على عقولنا جيدا ونتبصر بآثارها، فقد يكون هذا الذي ألقي أمام أحدنا معداً من قبل جهة معادية ليتلقفه ويشاركه من بعده آخرون، فنكون في هذه الحالة أداة طيعة في يد عدونا، ويكون واقعنا أشبه بواقع من يلقي بقنبلة على وطنه. الأمور أصبحت بالغة التعقيد، والفتن قد تمرر في صورة طرفة تعجبنا فنضحك عليها ثم نتناقلها، لكن واقعها أنها طرفة محشوة بالسم. فليتحسس كل منا موضع قدمه جيداً، فتجارب الآخرين من حولنا تدعونا إلى أن نعض على استقرار وطننا بالنواجذ.