إدريس لكريني

طرحت التوجهات الانفصالية الأخيرة في كل من كردستان العراق وإقليم كاتالونيا الإسباني، مجموعة من الأسئلة بصدد الخلفيات والدوافع الحقيقية المتحكمة في هذا الإجراء، ومدى شرعيته ومشروعيته، في ضوء المقتضيات الدستورية ومبادئ القانون الدولي في ارتباط ذلك بحماية سيادة ووحدة الدول، وتوجهات الرأي العام الدولي بصدد الموضوع.

يجسّد تنظيم الاستفتاءين معاً تنكّراً واضحاً للمقتضيات الدستورية للبلدين، باعتبارهما يهدّدان في شكلهما ومضمونهما سيادة الدولتين، ويفتحان المجال أمام مكونات اجتماعية أخرى وتحريضها على الانفصال، سواء داخل هذين البلدين أو خارجهما.
حقيقة أن حدوث الأمر داخل البلدين يثير قدراً من الغرابة، إذا استحضرنا أن إسبانيا راكمت تجربة متميزة على مستوى الممارسة الديمقراطية، وترسيخ التناوب السياسي الذي اكتملت دورته منذ منتصف الثمانينات من القرن الماضي، وأيضاً على مستوى تدبير التنوع المجتمعي بسبل منفتحة وديمقراطية، وتحقيق قدر كبير من التنمية داخل التراب الإسباني بشكل عام، وفي منطقة كاتالونيا على وجه الخصوص.

ونفس الأمر ينطبق على العراق، الذي أتاح للأكراد هامشاً واسعاً من الاستقلال الذاتي في إطار الوحدة، وتمكينهم من إمكانات وصلاحيات وازنة لتدبير شؤون الإقليم، وهو ما جعل هذا الأخير يعيش منذ سنوات على إيقاع التطور الذي مسّ مختلف الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية.. مقارنة بعدد من المناطق العراقية الأخرى التي تعرف مشاكل مختلفة، ومقارنة أيضاً مع أوضاع الأكراد في دول الجوار.

يختلف سياق تنظيم الاستفتاءين بين البلدين، ففي الحالة الإسبانية التي تقدّم تجربة ديمقراطية رائدة؛ تشير الدراسات والتقارير إلى أن الأمر يرتبط بالأساس، بتداعيات الأزمة المالية التي أرخت بانعكاساتها على الأوضاع الاجتماعية للإقليم؛ وبخاصة مع السياسات التقشفية التي انتهجتها السلطات المركزية في إسبانيا، بصورة أجّجت هذه التوجهات بعد سلسلة من المناورات السابقة في هذا الخصوص.

أما في الحالة العراقية فالأمر يختلف بالنظر للإشكالات الأمنية والاجتماعية التي يعيشها البلد، منذ اندلاع أزمة الخليج الثانية في بداية التسعينات من القرن الماضي، فقد انتشر الإرهاب في مناطق مختلفة من البلاد وهدّد أركان الدولة، فيما تضاعفت المعاناة الاجتماعية تحت وقع التدخلات الإقليمية والصراعات السياسية والطائفية التي عمّقت الجروح في هذا القطر.. وهو ما يحيل إلى القول بأن هذا الإجراء ينمّ عن استغلال فاضح لهذه الأوضاع، بخلفيات سياسية، وطموحات شخصية لرئيس منطقة الحكم الذاتي لإقليم كردستان مسعود البرزاني.

قوبلت هذه التوجهات الانفصالية، سواء تلك التي شهدتها إسبانيا أو العراق، بمزيج من الرفض والإدانة في الأوساط الدولية، سواء من قبل المنظمات الدولية وعلى رأسها الأمم المتحدة، أو القوى الدولية والإقليمية الكبرى، بصورة تعكس حرص المجتمع الدولي على محاصرة أي توجهات منحرفة من هذا القبيل، بالنظر إلى تداعياتها المحتملة على السلم والأمن الدوليين، من حيث تهديد وحدة الدول، وفتح دول العالم على متاهات من التصدع.. في مناطق مختلفة، وهو ما شكّل ضربة موجعة للتيارات الداعمة لهذه التوجهات غير المحسوبة.

وإذا كان هناك شبه إجماع على أن هذه التوجهات تتناقض ومقتضيات المشروعية الدولية في علاقتها بحماية سيادة ووحدة الدول، فإن توجهات الرأي العام العالمي الرافضة في مجملها لهذه التدابير المتخذة من جانب واحد، تبرز بما لا مجال للشك فيه أن التوجهات الانفصالية تعوزها الشّرعية الدولية أيضاً، بما يحيل إليه ذلك من عدم إبداء التعاطف أو القبول بهذه المغامرات في أوساط الرأي العام الدولي، ومختلف القنوات المسؤولة عن تشكّله. 

لم تتوقف تبعات هذه التوجهات، على الرفض الدولي، بل تعداها ذلك إلى بروز تداعيات ستمتد للمستقبل بالنسبة للجهات والأطراف التي بادرت إلى نهج هذا الخيار، ففي إسبانيا قامت الحكومة المركزية الإسبانية، بإقالة رئيس الإقليم، وعزل حكومته وبحلّ البرلمان المحلّي وإعفاء مديري الشرطة المحلية من مناصبهم، وتعيين وزراء ومسؤولين جدد.. فيما قامت السلطات المركزية أيضاً بمتابعة قضائية لعدد من النخب الكاتالونية المتزعمة لهذا الانفصال بتهم التمرّد والتحريض على الدولة والفساد وإساءة استخدام المال العام، فيما يواجه رئيس الإقليم «بوجديمون» المقال تهماً ثقيلة، يمكن أن تصل عقوبتها إلى ثلاثين سنة سجناً في هذا الصدد.. بينما أبدت دول الاتحاد الأوروبي رفضها لأيّ مساس بالسيادة والوحدة الإسبانيتين.

أما في الحالة العراقية، فقد أسهمت هذه المغامرة غير المحسوبة التي جاءت في مرحلة تعيش فيها المنطقة تحديات خطيرة متصلة بتزايد مخاطر الإرهاب، وما يقتضيه الأمر من يقظة وتعاون وتنسيق، في إنهاء الحياة السياسية للبرزاني الذي استقال من منصبه، بعد فشل مخططه تحت رفض المحيطين الإقليمي والدولي لهذا المسار؛ الذي لا تخلو انعكاساته على الأوضاع المستقبلية لإقليم كردستان، بعد استعادة السلطات العراقية لإقليم كركوك الغني بالنفط، وخلق أجواء من الحذر والشك في علاقة الأكراد بمحيطهم الإقليمي، مما سيعمّق عزلة الإقليم ويؤثر بالسلب على مساراته التنموية وديناميته السياسية التي تعززت خلال العقدين الأخيرين.

إن الهدوء الذي أعقب رفض كل من إسبانيا والعراق لخيار الاستفتاء من جانب واحد، يطرح مصداقية الأرقام التي طرحتها حكومتا الإقليمين بصدد نسبة المشاركة والتصويت لصالح الانفصال.. على المحك، كما أن رفض المجتمع الدولي لهذا الخيار وعدم التسرّع في تأييده، هو دليل ومؤشر على عدم شرعية هذا السلوك الانفرادي.. الذي يفتح الباب أمام طريق مجهول.

برغم الإشكالات السياسية والقانونية.. التي طرحتها هذه التوجهات، فإنها وبمنطق الاستفادة من الأزمات، تشكل محطّة لتقييم الجهود المبذولة على مستوى تحقيق التنمية وتدبير التنوع المجتمعي، ومساءلة المسار الديمقراطي، ومدى نجاعته وأهميته في ترسيخ مواطنة منفتحة وحاضنة لكل مكونات المجتمع.. بعيداً عن أي إقصاء أو تمييز.. ولإعادة النظر في العلاقة التي تربط المركز والأقاليم، نحو ترسيخ علاقة منفتحة تشوبها الثقة والتعاون والتنسيق والتكامل.. وتدبير الخلافات والأزمات العالقة بالحوار وبأقلّ كلفة..