عبدالله العوضي

في العام 2011، انفرط العقد في تونس وتناثرت حباته في مصر وسوريا وليبيا، ومنذ ذلك التاريخ لم يعُد العقد إلى سابق عهده. لقد وقعت حبّات العقد في بئر بلا قاع، ورغم محاولات مهرَة الغوص في قيعان المحيطات، إلا أن غواصاتها السياسية لم تدرك أهدافها المضادة لموجة «الربيع» الخادع للبصر أولاً، ولكن للبصيرة أكثر.

منذ «الربيع» الكالح، نقرأ سيناريوهات لأفلام الواقع السياسي لا تشبه سابقاتها في شيء، منها ما تحقق قبل أن نصل إلى نهاية القراءة، وبعضها في قائمة الانتظار تذهب قليلاً وليس بعيداً إلى ما وقع حتى الساعة من «الربيع» الذي اكتسح بحمرته دولاً حسبناها عصية على الانفراط بسهولة لما أحاطته من حولها من سياج أمني بشري وإلكتروني حتى في دور العبادة كتونس على سبيل المثال لا الحصر، ولم يوقف ذلك الهدير من الوصول إلى هدفه الأقسى في سريان مفهوم الفوضى الخلاقة للعنف والتطرف والإرهاب والإرعاب في باقة واحدة لا تحمل ورداً غير الأشواك من كل الجهات.

حرق «الربيع» أولاً كل الشعارات البراقة التي رفعت في حينها كالحرية والديمقراطية والعدالة والمساواة وآخر من أمثالها أزواج أو أفراد، حتى كان الخروج الكاسح للبشر بلا معنى ولا بوصلة سياسية توجه المسيرة التي لم تكتمل فصولها بعد رغم محاولات الصد والرد.

صحونا على واقع يقول هذا هو الفصل الأول من سيناريوهات الشرق الأوسط الجديد الذي بشر به شمعون بيريز قبل أن يحدث هذا الزلزال في خريف «الربيع العربي»، الذي ولّد هزات ارتدادية أشد وأنكى من الهزة الأولى بأعلى مقاييس ريختر.

وكان أحد آثار هذه الارتدادات صناعة غول جديد اسمه «داعش»، خرج بلا مقدمات منطقية ولا عقلية ولا فكرية ما أدى إلى تكوين تحالف لم يسبق له مثيل في التاريخ السياسي المعاصر من بعد الحرب العالمية الثانية، ضم أكثر من 60 دولة في العالم من أجل شن حرب عالمية على الإرهاب أينما نبت زرعه وأثمر ينعه المنحوس.

وكان من نتيجة هذه الحرب تدمير سوريا والعراق بشراً وحجراً إلى ساعة إعلان العبادي أن شيئاً اسمه «داعش» ذهب مع الريح ولم يعد له وجود، حتى رأينا مجموعة منهم يصلون إلى لبنان ويوقعون اتفاقية تاريخية مع «حزب الله» لنقلهم إلى «إدلب» بعددهم وعتادهم في صورة مرئية مسموعة أمام العالم الذي يحارب «داعش» دون أن نسمع استنكاراً ولا تنديداً، بل لم نسمع غير صوت الباصات المكيفة، وهي تنقل هؤلاء بسلام إلى حيث الاتفاق!

وفي معمعة الانشغال بـ«داعش» وفظائعه التي يندى لها جبين الإنسانية الحقة يهرول المتمردون «الحوثيون» لاختطاف الشرعية من «هادي» اليمن بلا إنذار ولا دستور، فيقف لهم التحالف العربي بالمرصاد في هبَّة عروبية لم يشهد التاريخ العربي لها مثيلاً بعد حرب أكتوبر 1973 ضد إسرائيل. فقرابة تسع دول عربية بقيادة المملكة العربية السعودية ذهبت للتخلص من النسخة الثانية لـ«داعش» في اليمن، بعد أن حول «الحوثيون» اليمن إلى أعشاش للغربان ومخابئ للفئران، ولا زالت الحرب مستمرة لقرابة ثلاث سنوات واليمن يطاله التدمير على يد مغتصبه، حتى تحين ساعة الحسم بعد الحزم.

ولم نصل إلى قاع البئر بعد، حتى أطلت عليها أزمة قطر التي انكشفت فيها علاقة النظام بكل ما جرى منذ «الربيع» الحارق في البداية حتى جاء وقت «الحوثيين»، ليتكون تحالف آخر لمقاطعة قطر من السعودية والإمارات والبحرين ومصر لقطع دابر الشر الذي كان يحاك هناك لخطف الخليج لصالح الإرهاب.

وبعد مرور قرابة ستة أشهر على هذه الأزمة المستمرة أرسل الحوثي صاروخه إلى باحة مطار الملك خالد بن عبدالعزيز في الرياض في رسالة حربية صارخة طالت سيادة المملكة التي هددت لبنان وإيران في وقت واحد نظراً لوقوف «حزب الله» من وراء ذلك، في خطوة غير مسبوقة من المملكة التي ساهمت بقوة في وقف حرب أهلية طائفية دامت لقرابة عقدين وقد تحول لبنان من سويسرا الشرق الأوسط إلى تورا بورا أفغانستان.

فاستدعت الرياض الحريري لإيقاف هذا النزيف في مهده وإلا فإن مبدأ «إعلان الحرب» سيأخذ مجراه من الرياض لكي تدفع لبنان «حزب الله» و«إيران» ثمن ذلك الصاروخ المتهور الذي لم يعمل حساباً للماضي ولا للحاضر.

ولا زال في قاع البئر مجال واحتمالات لجر مصر إلى حرب مع إثيوبيا بسبب «سد النهضة»، أو مع السودان بسبب إثارة «حلايب» من جديد، أو دخول إسرائيل على خط التماس مع «حزب الله» أو «حماس» لفض المصالحة الأخيرة، وتحرش إيران بالكويت والبحرين، ونقل «داعش» إلى مكان آخر بعد التخلص منه في «الفلبين» وإنتاج نسخة أخرى من «داعش» بعد استنفاد أغراضها من قبل صانعيه كما صنعوا «القاعدة» من قبل لتصديره إلى العالم الإسلامي بعد امتداده في العالم العربي ليقبل الجميع النهاية في تطبيع عام مع إسرائيل حتى يعم السلام النائم في قاع البئر.