عبدالله الحسني

هشاشة الوعي وارتباكاته يكرّسان لدى العقل صورة نمطية قاصرة تهيمن على الرؤية وتمنحها سنداً هلاميّاً تتّكئ عليه لإصدار أحكام ناجزة.

تلك الهشاشة لا تفتأ تُطلّ بوجهها القمئ الحاقد والمسكون بتورُّمات الحسد من بعض أشقّائنا العرب الذين باتوا يمارسون مع الأحداث اختزالات تبسيطية وتبخيسية وسالبة تجاهنا وإغفال طبيعة موقعنا الجيوسياسي وتجاهل مكوّنه الحضاري والثقافي الضارب في عُمق التاريخ.

تلك الصورة النمطية الشوهاء جعلت تلك الأعيُن الرمداء لا ترى أبعد من كوننا دولة نفطية جاد لها القدر وأكرمها بهذا الرخاء والوضع الاقتصادي المثير للحسد والحنق الذي يتمنّى معه زوال النعمة.

لم تُسعِف أشقاءنا العرب ذاكرتهم الفقيرة، وثقافتهم الأشد فقراً في درس التاريخ والجُثُوّ عند قدميه لاستلهام العِبر والاستضاءة باستحقاقات المرحلة التاريخية التي نمر بها جميعاً كعرب. تناسوا حديث التاريخ الذي ينطق بلسان مبين، بأنّ "بلادنا" قلب "الجزيرة العربية" ومهد الحضارة ومُنطَلق الدين ومصدر التحضّر ومنظومة القيم الإنسانية النبيلة التي لا تغدر وتسخو وتعطي بلا منّ أو أذى، منظومة وشبكة من الأخلاق السامية تتكئ على إرث حضاري هائل وشاسع بشساعة ونُبل إنسانه.

هذا السلوك الناقم الذي يتطاير شرره عند أي أزمة أو اختلاف نتفّهمه كمحسودين أكرمهم الله بهذا التميز الحضاري والإنساني وندرك دوافعه ومنطلقاته النفسية؛ فهو سلوك مريض يشير إلى عقلية اصطفائية متورّمة وواهمة وهماً يجعلها تتعامل مع نفسها ومع الغير بوصفها الأعلم والأحق والأجدر إلى آخر الأفضليات التي لا تستحقّها قطعاً.

أشقّاء العروبة في لبنان؛ وبعيداً عن مواقفنا معهم والممتدة بامتداد عراقتنا، يصرّون دوماً على فضح جهالاتهم وحسدهم عبر مواقف بليدة ومخجلة لا تحفظ للجميل وفاءه ولا للجار حقوق جيرته، ويفسدون علائق ووشائج ما كان لها أن تهترئ لولا غلبة القُبح والوضاعة والدّنوّ الذي يسكن بعض الأنفس المفلسة خلقياً وإنسانياً وحضارياً، فتجدها تنساق بغباء وقطيعية خلف دعوات طائفية كحزب الشيطان المهترئ والناضح سفالة وجهلاً، أو خلف أعداء بلادنا الذين يستكثرون عليها القيام بأدوارها العربية والإسلامية ليس تجاه أشقائها في الجوار بل إلى العالم أجمع، وهي أدوار إنسانية وحضارية شاء القدر أن نضطلع بها.

قاموس البذاءة والشتائم النتنة التي أطلقها أشقاؤنا في لبنان قبل أيام ووصفنا بالجهل واعتبار الجمال والبداوة مثالب يرموننا بها في كلّ مُلمّة وأزمة يمرّون بها باتت مضحكة ومثيرة للشفقة، وبات معها الحسم واجباً ووقف بذاءاتها حتمية تفرضها الظروف، فلا يعقل أن نوقف قطار الحضارة والتنمية لبلادنا للالتفات للعاطلين من كل شيء، سواء حضارياً أو إنسانياً وخلقياً وحتى ثقافياً. ولسنا في حاجة لتذكيرهم في كل مرة أن أفيقوا، فقد تجاوزكم الزمن والتاريخ، أفيقوا من وهمكم وأصيخوا السمع لأحد مفكريكم حين طالبكم بالاعتراف قائلاً: "لنتعرف لكي نعرف، فنحن نندب أنفسنا لقضية كبرى تتعلق بمصير العرب أجمعين، فيما نحن لم ننجز أصلاً المهمة المنوطة بنا، أي إنتاج المعارف والأفكار حول مجتمعاتنا وواقعنا. أو حول الواقع والعالم، وتلك هي المفارقة الفاضحة. أننا ندّعي امتلاك مفتاح الحلول لأزمة العالم العربي فيما نحن عاجزون عن حل أزمتنا القطاعية".

بقي أن نقول لأشقائنا في لبنان وغيره: تخلصوا من شعوركم بالنقص ولا ترزحوا تحت وطأة هذا الشعور، حرّروا ذواتكم وعقولكم وتمركزكم الأنوي حول أنفسكم، فهذه الأنوية تفقدكم أحباءكم وتقف عقبة أمام التعاطف معكم، انبذوا الأفكار ذات الطابع الإداني والتحقيري تجاه من تجاوزوكم فلم تعودوا تلك القِبلة التي يؤمّها المثقفون، ولن نكون مجرّد أفلاك تدور في عالمكم، ما يعني أن تحيّزاتكم وميلكم الاختزالي لعرب الجزيرة بات منقصة ومثلبة لوعيكم وجدّية إنسانيتكم وتحضرّكم فالتمسوا دواءه.