سمير عطا الله

 تعرفت إلى الدكتور أومليل عندما أمضى بضع سنوات سفيراً للمغرب في بيروت. وكان سفري الدائم يحول دون تلبية دعواته إلى لقاءات في منزله، غالباً ما تتحول إلى أمسيات ثقافية فكرية يشارك فيها اللبنانيون وضيوف لبنان من المثقفين العرب. ولا أذكر أن أياً من تلك الأمسيات خرجت عن الفكر والأدب إلى السياسة، فحافظ في نفسي على الصورة الشائعة للمغاربة، وهي أنهم مثقفون أولاً؛ وسياسيون تالياً: ابتداء بالملك في جميع العهود.

أهداني الدكتور أومليل جميع كتبه. وفي البداية خفت أن أقرأها وأعلق في تعرجات الثقافة ومنعرجات الحداثة وتموجات الفلسفة وإسقاطات فوكو وهيدغر. وكنت مطمئناً إلى أن الرجل من الكياسة واللياقة والذوق بحيث لا يستجوبني إن كنت قرأت الكتاب أم لا. لكنني ذات يوم قررت، من قبيل الإعجاب بالشخصية المثقلة بالفكر والرقي، أن أبحث عن الرجل الكاتب. وإذا أسلوب علي أومليل الأديب، جمالي ومباشر وسلس وبسيط، مثل صاحبه.
استمر يرسل إليَّ مؤلفاته الجديدة، وبقيت أعتذر على غيابي، لكنني كنت أتأكد دائماً من إرسالها إليَّ أينما كنت. منذ عامين، استعد الدكتور أومليل لترك منصبه في بيروت، بعد سنوات من العمل الدبلوماسي في مصر ولبنان. اتصل بي، لا أذكر أين كنت، وسألني عن موعد عودتي، فقلت العلم عند الله. قال: حسناً، سوف أرسل «مرايا الذاكرة» على عنوانك في «النهار».
تأخرت في لمّ البريد لأنه كان متراكماً منذ أشهر طويلة. تصفحت «مرايا الذاكرة» اعتقاداً أنه من النوع الذي يمكن أن يقرأ في أي وقت. يا له من خطأ. يجب أن يُقرأ الآن، ثم الآن. ثم ما هذا الاكتشاف يا رجل. وكيف أضعت وقتك في السياسة وفي الفلسفة وفي هموم المثقف العربي المسكين، وأنت صاحب هذا الأسلوب الذي يشبه انسياب نهر أبي الرقراق، عندكم في الرباط. ما هذا العمق المغلف بالبساطة والمغطى بما بقي من ورقة ندى من شجر الصحراء؟ ما هذا السرد البديع، هذه الصورة البديعة، هذه الملحمة الشخصية الإنسانية البديعة ما بين الجفاف والهطول والبحر؟ هل ذهبت إلى «السوربون» من أجل الدكتوراه في فوكو، أم من أجل السحر في شعر رامبو، والسرد عند بلزاك؟
لا أريد الغرق في لعبة الأسماء. لكن لا أعرف كيف سيكتشف المغربيون أن المغربي الأول فيك هو المغربي المهموم بمواسم المطر وفقر الأطفال العاملين في البحار، والكبار الذين: «لا الجسم أصبح يحتمل فائق الحركة، ولا الخاطر يحتمل كثرة المشاغل».