رحلة محرر «دير شبيجل» من الأهرام إلى «المتحف المصرى الكبير» .. كيف تتعاون مصر وألمانيا لتصميم متحف للأجيال القادمة؟

يورج رومر ــ المحرر العلمى بموقع شبيجل أون لاين

 
رغم كثرة التحقيقات الصحفية عن المتحف المصرى الكبير، يظل هذا الموضوع تجربة مختلفة جديرة بالقراءة، فعلى مدار الأسابيع القليلةمن تواجد المحرر العلمى يورج رومر بمصر ضمن برنامج تبادل المحررين العلميين والمدعم من قبل معهد جوته والخارجية الألمانية، سعى الصحفى الألمانى للبحث عن نقاط التعاون المشترك بين مصر والمانيا والتى قلما يتم تناولها فى وسائل الإعلام الأوروبية. فى السطور التالية يلخص يورج حواراته مع اثنين من أهم القائمين على تنفيذ مشروع المتحف المصرى الكبير د. طارق توفيق المشرف العام على المتحف والبروفيسور الألمانى أوفه بروكنر رئيس المجموعة المسئولة عن تصميمات المتحف الداخلية. إن الكتابة عن مشروع مصرى بعيون ألمانية لهى قراءة مختلفة لواحد من أهم مشروعاتنا الحضارية. وأنه ليسعد بالأهرام أن ينشر هذا الموضوع بالتنسيق مع موقع شبيجل أون لاين بما يسهم فى تعزيز قنوات الحوار بين البلدين وتعريف القارئ الألمانى بمشروع هام للحفاظ على التراث الإنسانى وتعريف الأجيال الشابة بمصر الحضارة .


المرة الأولى التى سمعت فيها عن المتحف المصرى الكبير كانت منذ سنوات، حيث تداولت الصحف الألمانية بعض الأخبار المقتضبة عن مشروع ضخم يتم تنفيذه بجوار الأهرامات وهو إنشاء أكبر متحف أثرى فى العالم.وطبقا للأخبار فإن أكثر من 50 ألف قطعة ستكون متاحة للعرض المتحفى داخل مبنى يتم إنشاؤه على أحدث الطرز المعمارية.

مثل تلك المشروعات الكبرى تستدعى فضول كل إنسان، وليس فقط الصحفيين الشغوفين بالآثار مثلى أنا.ورغم ذلك كان من الصعب على الحصول على معلومات دقيقة بهذا الشأن حيث لم يحظ خبر المتحف المصرى الكبير باهتمام كبير من قبل وسائل الإعلام الألمانية، لذلك كان الأمر بمثابة مصادفة سعيدة أن أسافر لمصر للعمل فى جريدة الأهرام فى إطار برنامج تبادل المحررين العلميين، فالآن يمكننى التعرف عن قرب على ما حققه المصريون فى مشروع المتحف الكبير.وهكذا بدأت رحلتى الصحفيةمن مقر جريدة الأهرام بشارع الجلاء إلى أهرامات الجيزة بحثا عن المعلومات لأكتشف عددا من المفاجآت التى لم أتوقعها عن المتحف الجديد والمشاركين فى تنفيذه.

د. بروكنر - طارق توفيق


قبل الوصول للمتحف بدت الرافعات واضحة ويمكن رؤيتها عن بعد بجانب المتحف. وكما علمت من القائمين على المتحف فإن معظم الإنشاءات قد أوشكت على الإنتهاء.خلال الزيارة راودتنى أسئلة كثيرة حول التصميم الداخلى للمتحف وكيف سيتم توزيع كل هذه القطع الأثرية على مساحة 40 ألف متر مربع؟أردت معرفة المزيد، وحين سألت تلقيت أول المفاجآت. فكل التصميمات الداخليةلقاعات العرض بالمتحف تمت فى ألمانيا ويتولى مكتب المصمم الألمانى البروفيسور أوفه بروكنر مهمة تنسيق مساحات العرض المتحفى ومنها على سبيل المثال كنوز مقبرة توت عنخ آمون والتى ستعرض كاملة للمرة الأولى حيث يعرض بعضها فى المتحف القديم بالتحرير .

اتصلت بالبروفيسور بروكنر وسألته عما سيشاهده الجمهور، فأرسل لى عددا من التصميمات لما ستكون عليه قاعات العرض خلال الشهور المقبلة عند افتتاح المتحف المصرى الكبير.كما حكى لى أنه زار مصر عدة مرات وأبحر جنوبا هو وقرينته بامتداد نهر النيل كى يستلهم الأفكار مما خلفته الحضارة المصرية القديمة.

وفقا للبروفيسور بروكنر فإن الفريق المساعد له والذى يتولى كل مراحل التصميم وتوزيع التماثيل والقطع الأثرية يتكون من 120 خبيرا من 27 جنسية وهم ليسوا فقط معماريين ومهندسى تصميم داخلي، بل تم إشراك أثريين وعلماء فى شتى مجالات الثقافة والفنون.ولقد سبق للبروفيسور بروكنر تصميم عشرات المتاحف والمعارض الفنية والثقافية فى مختلف دول أوروبا وفى العالم العربى صمم العديد من المتاحف العلمية والتراثية فى دبى وعمان هذا إلى جانب مركز الملك عبد العزيز الثقافى بالمملكة العربية السعودية، ومتحف بيروت الوطنى بلبنان.

يقول د.بروكنر:»خلال إعدادنا مراحل العمل الأولى على المتحف المصرى الكبير قمنا بأبحاث كثيرة عن المعروضات المتحفية، كما استعنا بأكثر من 40 كتابا لاستيضاح السياقات الثقافية، والموسيقية، والمناخ السياسى الذى كان سائدا فى ذلك الزمن.فنحن نريد أخذ كل هذه الأمور فى الاعتبار عند تصميم قاعات المتحف».

ولأن الأولوية فى هذا المتحف هى التركيز على القطع الأثريه فلقد راعى د.بروكنر أن تخدم التصميمات المضمون. طبقا للبروفيسور بروكنر: «نحن نبذل قصارى جهدنا ونفكر كثيرا كيف يمكننا تشجيع الأطفال والشباب لزيارة المتحف خاصة أن كل مصادر المعرفة متاحة اليوم على الإنترنت».

من الأفكار التى يتم تطبيقها لجذب الشباب، يعمل البروفيسور بروكنر حاليا على إدماج التكنولوجيا الرقمية بالمتحف وخاصة تقنيات الواقع الافتراضى والواقع المعزز بما سيتيح للزائرين متعة التفاعل مع القطع الأثرية والاعتماد على أنفسهم لقراءة المخطوطات والمكتوبة باللغة الهيروغليفية.كما يخطط فريق التصميم لإقامة محطات رقمية على امتداد المتحف تتيح للزائرين انتقاء كم ونوعية المعلومات التى يريدون معرفتها. تلك التقنيات التى ستتيح «المعلومة حسب الطلب» هى خدمات غير مسبوقة فى عالم المتاحف وفقا للبروفيسور بروكنر.

من المانيا إلى مصر، كان لقائى مع الدكتور طارق توفيق المشرف العام على المتحف المصرى الكبير، فداخل المتحف ورغم استمرار أعمال البناء، فالعمل يجرى على قدم وساق فى المعامل. سبعة عشرة ورشة عمل متخصصة فى حفظ وصيانة الآثار المختلفة، من الجلد إلى الخشب إلى الملابس والقطع المعدنية. إنه أكبر مركز ترميم فى العالم. يعكف العلماء وخبراء الآثار فى الوقت الحالى على ترميم 42 ألفا من القطع المتحفية. أرانى أحد الأثريين زوجا من الصنادل الأثرية تم تخزينها فى المتحف القديم بالتحريرلمدة طويلة وأصبحت الآن جاهزة للعرض بعد ترميمها.

نأتى الآن إلى المفاجأة الثانية، د. طارق توفيق يتحدث الألمانية كأهلها، درس بالمدرسة الألمانية بالقاهرة والدكتوراة فى العاصمة القديمة لألمانيا بون.وفقا للدكتور توفيق فلقد ساعدت معرفته للغة الألمانية فى التواصل مع فريق د. بروكنر بشكل كبير بما يعود بالنفع على مشروع عالمى كهذا.

كما أشار إلى أنه كثيرا ما تشهد المتاحف العالمية ازدحاما عند المعروضات الأكثر شهرة والتى تعد بمثابة عنق الزجاجة بالنسبة للمتحف. ففى متحف اللوفر بباريس على سبيل المثال تتزاحم الجموع أمام «لوحة موناليزا» الشهيرة التى رسمها ليوناردو دافنشي. ولتجنب هذه المشكلات عمل د. طارق ود.بروكنرعلى وضع تصور لحركة الزائرين للقطع الأثرية الفريدة مثل قاعة العرض للقناع الذهبى لتوت عنخ آمون. تبدو تلك الأفكار بالغة الأهمية ومصر تعمل على مشروع كبير بهذا الحجم. تذكرت أننا فى ألمانيا عانينا على مدار السنوات الأخيرة من تجارب غير موفقة لتنفيذ مشروعات كبرى. ففى هامبورج قمنا بإنشاء دار للأوبرا ذات تصميم معمارى فريد وحظيت باهتمام دولى إلا أن الأخطاء المتكررة فى تعاقدات التنفيذ والتخطيط للمشروع تسببت فى تضاعف تكلفة الإنشاء من 186 مليون يورو إلى مليار يورو. نفس الأمر تكرر مع مشروع مطار جديد فى برلين والذى تأجلت خطط افتتاحه أكثر من ست مرات وتضاعفت تكلفة إنشائه بشكل كبير.

إلا أننى سرعان ما لاحظت أن هذه المشكلات ربما هى أمر ألمانى بحت، فكل من قابلتهم فى مصر متحمسون ويتطلعون لافتتاح المتحف المصرى الكبير بنهاية العام القادم. يثق د.توفيق أيضا فى أن المتحف سوف يجذب زائرين جددا للبلاد وسيدعم السياحة التى تراجعت معدلاتها فى السنوات الأخيرة بشكل حاد، كما يوافق البروفيسور بروكنر على أن المتحف المصرى الكبير سوف يكون استثمارا جيدا من أجل المستقبل، وحسب وصفه: «إن هذا المشروع هام للمصريين كافة بدءا من سائقى سيارات الأجرة وبائعى الهدايا التذكارية حتى العلماء والأثريين».انتهت للأسف رحلتى للقاهرة، لكنى على ثقة أننى سوف أعود مرة أخرى عندافتتاح المتحف المصرى الكبير، ولسوف تسعدنى رؤية ما سوف ينجزه تعاون توفيق وبروكنر.