فـــؤاد مطـــر

 ما أن استبشر السودانيون خيراً، وتجاوبت الإدارة الأميركية مع سعي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز، ومباركة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان لهذا السعي، والحث على تسريع إجراءات رفع العقوبات، حتى تحركت جيوب خفية في تلك الإدارة لتعكير صفو هذه الخطوة التي ما أن تم الإعلان عنها حتى بدأ صوت الاستنهاض في السودان لجهة الاستثمار الزراعي والعقاري والصناعي والمصرفي يعلو على أصوات كل الصراعات بكل أنواعها، وهي صراعات طالما حجبت عن السودان انفتاحاً متبادَلاً مع دول العالم، وبالذات تلك التي تبحث عن الفرص المجزية في مجال الاستثمار على أنواعه. بل إن «الاتحاد العربي للتطوير والاستثمار العقاري» اختار الخرطوم مقراً له، وهذا يعني أن السودان على موعد مع صناديق تمويل دولية تشكل الأرض السودانية بما فوقها من ثروة زراعية وحيوانية ومائية، وبما تحت هذه الأرض المترامية الأطراف شمالاً وشرقاً وغرباً من ثروات، فرصة تنتظر المستثمرين الشجعان الذين يتطلعون إلى المجزي والمضمون من العوائد نفطاً وذهباً وأنواعاً من المعادن التي حالت دون جني ثمارها المغامرات الثورية والانقلابية والصراعات الحزبية، وإصرار الجنوبيين على الانفصال عن توأمهم الشمالي، مع أن بقاء السودان، شبه القارة على وحدته ومعها استقرار وتعاون وعيش مشترَك، كان أفضل بكثير مما انتهى إليه حال الدولة الجديدة... دولة جنوب السودان التي لا يتوقف الصراع فيها ولا يقتنع أولو الأمر بأن الاحتراب القبلي الدينكاوي والنويري لا يبني دولة ولا يصون كياناً ولا يحقق استقراراً، ولا يجذب سياحاً ولا يغري مستثمرين. وخير ما على الجنوبي الإقدام عليه هو اعتماد حنكة الشمالي التي ساعدت على تحقيق فك العزلة الدولية عنه.

أحدث علاقات الحنكة أن الرئيس عمر حسن البشير يمم وجهه شرقاً وقام بزيارة إلى روسيا قد تبدو في بعض دواعيها أنها رد على الجيوب الخفية في إدارة الرئيس ترمب التي على ما يجوز الاعتقاد تريد من السودان موقفاً يتصل بالصراع العربي - الإسرائيلي ولا يتجاوب الرئيس البشير مع ما يراد منه، لكنها في الوقت نفسه تشكِّل منعطفاً استراتيجياً بالغ الأهمية، ذلك أن الرئيس البشير ومن دون التمهيد للخطوة فاجأ الرئيس فلاديمير بوتين بأنه عرض عليه إقامة قاعدة عسكرية روسية في إحدى بقاع الساحل السوداني على البحر الأحمر.
من الجائز الافتراض أن الرئيس بوتين فوجئ بما طلبه الرئيس السوداني، واستحضر من الذاكرة ما فعله الرئيس (الراحل) جمال عبد الناصر في الخمسينات عندما رد على استهانة أميركية به بأنه أبرم مع الاتحاد السوفياتي صفقة أولية دخل بموجبها سلاح الدولة الشيوعية الكبرى إلى جيش مصر ذات السلاح الغربي، ثم تطورت الأمور بفعل الصراع العربي - الإسرائيلي والدور المحوري لمصر فيه إلى أنه بات للجيش الأحمر مواطئ قدم في البحر الأبيض المتوسط ساحل الإسكندرية. لكن صفحة هذه المواطئ التي تمددت نحو الداخل لأحكام فرضتْها الضرورات ما لبثت أن طُويت لمجرد أن بات أنور السادات رئيساً لمصر. فالقواعد العسكرية ليست مقياساً لتثبيت العلاقات وتطويرها.
في حيثيات طلب الرئيس البشير من الرئيس بوتين لقواعد روسية خلال «الزيارة التاريخية» على حد تصنيف الهادي آدم حامد رئيس لجنة الأمن والدفاع في البرلمان السوداني يوم الأربعاء 29 نوفمبر (تشرين الثاني) 2017 لها، أن «السواحل البحرية للسودان طويلة وممتدة وهنالك انتهاكات عدة تتمثل بدخول جرافات بحرية إلى حدودنا البحرية، حيث تجرف الثروة السمكية، إضافة إلى انتهاكات قوارب صيد أُخرى...». في الحيثيات أيضاً «هنالك تجارة غير مشروعة بالبشر، حيث استغل المتاجرون سواحل البحر الأحمر في هذه التجارة، عبْر توصيل بشر إلى مناطق أُخرى، ونحن جزء من المجتمع الدولي، ويجب علينا أن نكافح مثل هذه الظواهر ونحمي سواحلنا البحرية، لذا التعاون مع روسيا وإقامة قاعدة ليس بالأمر الغريب، بل هو مطلوب في الوقت الحالي. ومثل هذا التعاون موجود في كل الدول».
لا ندري ما إذا كان الرئيس البشير عرض هذه الحيثيات عندما التقى الرئيس بوتين. ومن السابق لأوانه إذا كان الطلب سيلقى التجاوب وسيتجاوز عند توثيق الاتفاقية في هذا الشأن مسألة أن تكون القاعدة الروسية المطلوبة مجرد مركز دوريات مراقبة على نحو التحديد السوداني الأولي لهذه القواعد. لكن في أي حال سيكون الإصغاء للطلب في منتهى الدقة، كذلك الحرص على التلبية، ذلك أن روسيا البوتينية التي حققت لمؤسستها العسكرية موطئ رسو مستقر في مياه المتوسط على الساحل السوري، ستجد في مياه البحر الأحمر على طول سواحل السودان ما هو أكثر دفئاً يخفف من جليد الكرملين، وما يتفرع عنه من مؤسسات أهمها المؤسسة العسكرية.
حتى الآن ليس أمامنا في مشهد المفاجأة البشيرية سوى ما قاله آدم الهادي أحمد وأشرنا إليه، وما سبق أن قاله في اليوم الثاني لزيارة الرئيس البشير النائب الأول لرئيس لجنة الدفاع والأمن في المجلس الاتحادي الروسي فرانتس كلينتسيتفيتش «إني لا أرى أي سبب لتجاهُل دعوة الجانب السوداني إذا ما طُرحت. وأعتقد، وبالأخذ في الاعتبار النجاح الروسي في سوريا الذي بات المجتمع الدولي يعترف به، أن دولاً أخرى قد تُقدِّم عروضاً مشابهة في المستقبل القريب».
في حال تم تجاوب الرئيس بوتين مع الطلب السوداني، فإن القواعد إما عسكرية على نحو ما هي في الساحل السوري وإما لا تكون، أي بما معناه لن تكون قاعدة خفر سواحل. وما يتعلق بالقواعد العسكرية يحتاج إلى توافُق داخلي في السودان حيث التوافق دائماً يتعثر.
قبْل الرئيس البشير حدثت في السبعينات محاولة بناء علاقة سودانية - سوفياتية قام بها الرئيس (الراحل) جعفر نميري خلال زيارة قام بها إلى موسكو ولم تثمر لأن الكرملين الأحمر كان يتطلع إلى أن يكون السودان بكامله في ظل شراكة راسخة بين الحزب الشيوعي القوي ونظام «ثورة مايو» الذي يقوده نميري بمعاونة نخبة من الضباط برتبة رائد. وانتهى الأمر إلى ما هو دون العداوة بقليل. مقابل ذلك كانت صين ماو تسي تونغ أكثر حنكة وحكمة. استحوذت على قلوب السودانيين من خلال دعم للقدرة العسكرية ورفض الثمن بالمقابل لأنها على حد توجيه زعيمها التاريخي ماو «دولة لا تتاجر بالسلاح وإنما تدعم الأصدقاء»، ومن خلال مساعدة السودان على زرع الأرز للمرة الأولى في جنوب البلاد، وفي إنشاء طريق بين الخرطوم وبورسودان وبناء «قاعة الصداقة» مقراً ثانياً لرئيس الدولة، ودرَّب صينيون أعداداً من الفتية السودانيين من الجنسيْن على «الأكروبات» فبات في السودان فرق من البهلوانيين والبهلوانيات قدمت عروضاً محلية ودولية، وأدخلوا فن الطب الصيني (الوخز بالإبرة) إلى بلدات سودانية كثيرة... فضلاً عن أن الصين غدت زمنذاك المشتري الأول للقطن السوداني. وعندما حان موسم قطاف ثمار الصداقة وهو استخراج النفط الذي تأكد وجوده، نالت الصين الحظوة ومن دون أن تبني قواعد عسكرية أو تنشئ حزباً يشكِّل قاعدة نفوذ قوي لها كما الحزب الشيوعي السوداني الذي انتهى طامعاً في السلطة... ولذلك انتحر أو انتحروه، لا فرق.