محمد السعيد إدريس

راهنت الإدارة الأمريكية طوال الأشهر الماضية من عمر الأزمة السورية على التحالف مع «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) و«وحدات حماية الشعب» الكردية في الحرب ضد تنظيم «داعش» الإرهابي، ضاربة عرض الحائط بالانتقادات التركية الرافضة لهذا التعاون الذي تراه تدعيماً لمكانة وقوة هذه التنظيمات الكردية التي تسعى إلى تأسيس كيان كردي مستقل على الحدود السورية - التركية الذي يُعدّ، من وجهة نظر أنقرة، تهديداً للأمن القومي التركي. هذا الإدراك التركي بالتهديد دفع الرئيس رجب طيب أردوغان إلى توجيه رسالة حادة إلى الأمريكيين، قال فيها إن «مواصلة الولايات المتحدة تسليح (قوات سوريا الديمقراطية) يعد تجاوزاً لمصالح تركيا»، مشيراً إلى أن «بلاده لن تسمح باللعب بها كدمية». 

واشنطن كانت تدرك عمق ما تواجهه من مأزق في إطار دورها في سوريا فتعاونها مع «وحدات حماية الشعب» الكردية و «قوات سوريا الديمقراطية» الكردية في القتال ضد «داعش» في الرقة وشمالي سوريا عموماً، كان يباعد بينها وبين الحليف التركي الذي تتردّى العلاقات معه يوماً بعد يوم، بسبب هذا التعاون مع هذين التنظيمين اللذين تعتبرهما أنقرة «تنظيمين إرهابيين»، وكانت تسعى للتوفيق بين الحليفين، لكن فشلها في ذلك وضعها أمام حتمية الاختيار بينهما وأن تحدد بمن ستضحي لصالح من، إذا كان الاختيار حتمياً، ويبدو أن تطورات الصراع الأخيرة في سوريا وهزيمة «داعش»، وضع واشنطن مع خيار إعطاء الأولوية لتركيا، ومن هنا جاء التطور المفاجئ واللافت في العلاقة بين واشنطن وأنقرة عقب المحادثة الهاتفية التي جرت بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وهي المحادثة التي روّجت أنقرة أن الرئيس الأمريكي تعهد فيها بالتوقف عن تسليح «وحدات حماية الشعب» الكردية في سوريا.

وجود روايتين مختلفتين لهذا التعهد واحدة تركية وأخرى أمريكية، تكشف أن التقارب أو فرص عودة الثقة بين أنقرة وواشنطن أمامها عقبات أخرى. فبعدما صرّح وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو (24/‏11/‏2017) بأن الرئيس الأمريكي وعد«بوضوح» بعدم تزويد «الوحدات» بالأسلحة، نقل البيت الأبيض عن ترامب قوله (25/‏11/‏2017) أنه أبلغ الرئيس التركي خلال الاتصال بأن واشنطن «تعدل الدعم العسكري لشركائها على الأرض في سوريا».

الخلاف بين الرؤيتين يكشف أن واشنطن الحريصة على الحصول على دعم الحليف التركي لتأمين وجود أطول على الأراضي السورية بعد انحسار الدور الذي كانت تقوم به «داعش» وقرب انتهاء الحرب ضدها، لمواجهة النفوذ الروسي والإيراني، ما زالت ترى أن الشركاء الأكراد ما زالوا ورقة مهمة أيضاً لتأمين مستقبل الوجود الأمريكي في سوريا، لكن هذا الموقف الأمريكي المتردّد في التوجّه بحماسة نحو أنقرة من شأنه أن يفشل المسعى الأمريكي لكسب أنقرة دون خسارة الأكراد، بسبب وجود أزمات أخرى ما زالت تحول دون عودة الثقة والتعاون المأمول بينهما.

يأتي في مقدمة هذه الملفات الدعم الأمريكي لمشاركة وفد من «مجلس سوريا الديمقراطية» الكردي للمشاركة في مؤتمر جنيف للسلام في سوريا، حيث مارس الموفد الأمريكي مساعد وزير الخارجية الأمريكي ديفيد ساترفيلد ضغوطه على وفد المعارضة السوري للقبول بممثلين عن «مجلس سوريا الديمقراطية»، بصفته الجناح السياسي ل«قوات سوريا الديمقراطية» ضمن الوفد الموحد للمعارضة السورية الذي تشكّل في الرياض قبيل انعقاد جولة مفاوضات «جنيف - 8 الأخيرة». يدعم هذا الاتجاه الصمت الأمريكي على ما يجري من مواصلة المرحلة الثانية من انتخابات «مجالس البلدات والمدن والمقاطعات» في المناطق التابعة لسيطرة «قوات سوريا الديمقراطية».

الملف الأصعب الذي يباعد أنقرة عن واشنطن هو التمنّع الأمريكي في التجاوب مع مطلب أنقرة تسليم الداعية «فتح الله جولن» الذي تتهمه السلطات التركية بالمسؤولية عن المحاولة الانقلابية الفاشلة عام 2016، إضافة إلى ما يعتبره الرئيس التركي من «ابتزاز أمريكي» في القضية التي يحاكم فيها رجل الأعمال التركي - الإيراني رضا زاراب بتهمة انتهاك تركيا للعقوبات المفروضة على إيران. وهي القضية التي من الممكن أن يتحمّل الرئيس التركي جانباً من تبعاتها بعد أن اعترف زاراب لأجهزة التحقيق الأمريكية بتورط وزراء في حكومة أردوغان، وقت أن كان رئيساً للحكومة، في تسهيل تمرير تحويلات مالية إلى إيران مقابل عمولات.
ملفات تعتبرها أنقرة حواجز تحول دون عودة الثقة مع واشنطن، وتدفع تركيا في الاتجاه الآخر للتعاون مع روسيا وإيران، الأمر الذي يضع الأمريكيين مجدداً في مأزق الخيارات الصعبة بين أنقرة والحلفاء الأكراد، ويؤثر سلبياً في دورها في سوريا مقارنة بروسيا.