إياد أبو شقرا 

كلمات وعبارات جديدة فرضت نفسها على القاموس السياسي اللبناني: «منع الفراغ»... «الاستقرار»... «الواقعية»... «ربط نزاع»... كلها مصطلحات تعبّر عن «حالة» معينة تترجم غلبة محلية تستغل الاختلال الإقليمي والارتباك الدولي.


نحن في مرحلة تمرير الوقت بالتكتيك، بينما تتنافر الاستراتيجيات وتتقاطع وتتخفّى، بانتظار وضع يُكتب فيه الحد الأدنى المقبول من التفاهم على نظام عالمي جديد.
أصلاً، قبل أن نبحث بجدية في الاختلال الإقليمي، وننتقل منه إلى مناقشة ما يحدث في لبنان اليوم، لنعرض إلى الارتباك الكبير الذي تعاني منه الكتل الثلاث الأعظم تأثيراً في العالم اليوم.
الولايات المتحدة انتقلت قبل سنة من إحدى أكثر الإدارات «يسارية» في تاريخها إلى إدارة يجوز وصفها بأنها الأكثر «يمينية». ومع أن النظام السياسي الأميركي يستند إلى مبدأ «الضوابط والتوازنات» فإن انتخاب باراك أوباما - الذي بات أول أفريقي أميركي يدخل البيت الأبيض - كان مؤشراً لتغيّرات بنيوية في المفاهيم الاجتماعية والسياسية في البلاد، أو هكذا بدا على الأقل في نوفمبر (تشرين الثاني) 2008.
وبعد ذلك في نوفمبر 2016 تحرّك رقّاص الساعة بالاتجاه المعاكس تماماً، وانتخب دونالد ترمب رئيساً. وهو ليس فقط مرشحاً جمهورياً محافظاً متشدداً، بل رجل أعمال من خارج «المؤسسة السياسية»، خاض معركته التمهيدية ضد القيادة التقليدية للحزب الجمهوري، من دون أن ينتخب لأي منصب سياسي من قبل. لقد كان انتخابه هو الآخر مؤشراً لتغير بنيوي في المزاج الشعبي، إنْ لم نقل الثقافة السياسية في أميركا؛ ذلك أن الانتقال من أقصى «اليسار» إلى أقصى «اليمين» كشف انقساماً عميقاً داخل «مجتمع مهاجرين» كانت فيه التعدّدية مصدر قوة... لكنه بات الآن متخوفاً من التعدّدية والانفتاح والتسامح وتقبّل الآخرين.
ما حصل في أميركا حصل أيضاً في أوروبا الغربية، حيث جوبه مدّ العولمة الكاسح في عدة دول أوروبية بـ«عنصرية» كامنة استعادت صوتها وثقتها بنفسها. هذه الظاهرة نسيت ما جرّه التعصب القومي - بل العرقي - على أوروبا من ويلات، أخطرها نهوض النازية والفاشية... وآخرها انهيارات البلقان فيما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وحلف وارسو في القرن العشرين.
أيضاً في آسيا، حيث القوتان الأكبر سكاناً في العالم الصين والهند، ثمة مشكلات معقدة تتزايد وتتفاقم مع اختلاف المصالح والحسابات من قدرات كوريا الشمالية النووية إلى النزاع على جزر سبراتلي في بحر الصين الجنوبي، مروراً بأزمات شبه القارة الهندية وميانمار وتركستان الغربية (إقليم سنكيانغ الصيني).
انشغالات الكتل العالمية الثلاث هذه كان لا بد أن تنعكس على الشرق الأوسط بصورة أو بأخرى. وكان هذا الواقع مفيداً لتنافُس ثلاث قوى حسنة التنظيم، هي إسرائيل وإيران وتركيا، على الهيمنة الإقليمية... وإنْ لم يتيسر لها ذلك، فأقله الاستفادة من المحاصصة.
الدعم الأميركي لإسرائيل ليس جديداً على الرغم من قرار دونالد ترمب، بالأمس، ترجمة تصويت الكونغرس على الاعتراف بالقدس «عاصمة لإسرائيل» عملياً؛ ذلك أن واشنطن رعت سياسياً إسرائيل ودعمتها عسكرياً طيلة سبعة عقود. أما فيما يتعلق بإيران وتركيا فشهدنا تبدلاً في مشهد العداوات والتحالفات. وبعدما كانت إيران وتركيا حليفتين لواشنطن إبان حقبة الحرب الباردة، شهدت علاقات البلدين مع واشنطن وموسكو تبدلاً جوهرياً، بعدما اتبعت كل منهما «مدرستها الخاصة» في «الإسلام السياسي»، واستثمرت كل منهما شعاراتهما «الإسلامية»، لتعزيز حضورها في عالم عربي خسر هويته القومية من دون أن يكسب بديلاً يحمي وحدة كياناته.
لقد بدأت طهران تدخلها الهادف إلى الهيمنة الإقليمية منذ أول يوم في حكم «الثورة الخمينية» عام 1979، مع رفع شعار «تصدير الثورة»، الذي تسبب بالحرب العراقية الإيرانية الأولى. أما تركيا، الحالمة سابقاً بالتوجه غرباً وحجز مكان لها في الأسرة الأوروبية، فاكتشفت متأخرة أنه غير مرحب بها. وبالتالي، مع نجم الدين أربكان، ثم رجب طيب إردوغان، امتطت صهوة جواد آخر، واتجهت شرقاً وجنوباً في العالم العربي وآسيا الغربية.
ما عرف بـ«الربيع العربي» عام 2011 كان مناسبة للقوى الثلاث للتنافس ولو على حساب طموحات شعوب الكيانات العربية وأحلامها. وفي حين كانت إيران قد حققت تقدّماً مبكراً عام 2003 مع غزو العراق و2008 بالسيطرة على لبنان، فإن تركيا قرّرت أن تواجه، وترد على الإيرانيين لاحقاً بمحاولة تحقيق تقدّم موازٍ في سوريا ومصر، وربما في ليبيا أيضاً. أما إسرائيل فقرّرت استغلال النزاع السنّي - الشيعي المتفاقم، أولاً للإجهاز على البقية الباقية من فرص قيام دولة فلسطينية، وثانياً لضمان استمرار النزيف الإقليمي العربي الذي يحصّن وضعها ويهدر الطاقات التي يمكن أن تهددها في يوم من الأيام.
إيران كانت بحلول 2011 قد أنجزت هيمنتها على العراق ولبنان واستثمارها الهادئ في حوثيي اليمن. وبعدها تواجهت ميليشيات إيران لبضع سنوات مع القوى المحسوبة على تركيا في الساحة السورية قبل أن تدخل روسيا على الخط فتحدّ من طموح الأتراك، وتدفع «حماسة» واشنطن لدعم الأكراد كلا من طهران وأنقرة إلى قبول التنسيق والمحاصصة في آستانة. ثم منيت أنقرة في صيف 2013 بنكسة كبرى في مصر بعدما كانت قد اعتبرت نفسها رابحة من ثورة يناير (كانون الثاني) التي استثمرها الإخوان المسلمون فتولوا الحكم بين 2012 و2013.
في هذه الأثناء، كان اللبنانيون قد أخذوا يدركون أن انسحاب القوات السورية من بلادهم عام 2005 في أعقاب اغتيال رفيق الحريري لم يكن ذا معنى. فنظام دمشق كان عملياً مجرد واجهة وحاضنة لـ«احتلال» إيراني مستتر باسم «المقاومة»... وانقسامات اللبنانيين السياسية كانت، ولا تزال، أعمق من أن تولّد وعياً مسؤولاً بمصلحة جامعة لا بد منها لبناء وطن.
اليوم «الاحتلال» مستمر، والأسوأ من ذلك، يحظى بتواطؤ دولي، الغاية منه تأمين تغطيته و«شرعنته». وبعض القيادات اللبنانية المتذرعة بـ«الاستقرار» و«الواقعية»، بعدما مهّدت بالتهويل لخطر «الفراغ» ارتضت بمحاصصة توفّر التغطية و«الشرعنة»...
ولذا فهي تتصرّف وكأنها لا تدري مع أنها تؤدي الدور المطلوب وفق الإيقاع المطلوب!