عثمان الصيني

قدر السعودية أن تكون نموذجا للمصداقية في الوقت الذي يغرق فيه البعض في النفاق السياسي، وهي مدركة بوضوح المواقف السافرة والمبطنة، والأصابع التي تحيك المؤامرات، وتعرف في الوقت نفسه كيف تتعامل معها

لم يكن مفاجئا لي ذلك الهجوم السافر في الوسائط الإعلامية على السعودية عقب إعلان ترمب نقل السفارة الأميركية إلى القدس، وكأنّ القرار اتخذته السعودية لا أميركا، وتجاهلت الهجمات المواقف السعودية الواضحة في غضون ساعات من الإعلان، بدءا من الموقف الصريح للملك سلمان في مكالمته مع الرئيس الأميركي، ثم بيان الديوان الملكي وبيان هيئة كبار العلماء، ومن يملك قدرا من الذاكرة يرى أن هذه الأمور غير مستغربة ضمن سياساتها التاريخية بعد نكبة 1948.
هناك خطان متوازيان يلتقيان عند الأشخاص الطبيعيين، سواء كانوا قادة أو مثقفين أو إعلاميين أو من عامة الناس، ولا يلتقيان عند أصحاب المواقف المسبقة والمصالح أو الواقعين أسرى الصورة النمطية. وسأبدأ بالخط الثاني، وهم أصحاب المسار الذي لا يلتقي مع السعودية ولو أوقدت لهم أصابعها شموعا، وهم على ثلاثة أصناف، 
01 بقايا اليسار الذين كانوا ضد السعودية عقيدة بحجة أن السعودية دولة يمينية محافظة وتتعارض مع توجههم اليساري والاشتراكي، وأحيانا الشيوعي وبعض القومجيين العرب، وزاد لهيبها صراعات الحرب الباردة. 
02 من ترسخت لديهم الصورة النمطية عن دول الخليج منذ الستينات وقبل استقلالها عن بريطانيا، من خلال الهجوم على مشيخات وإمارات النفط، وحمل لواءها أدباء ومفكرو بلاد الشام، وخصوصا سورية وفلسطين ولبنان وإلى حد ما الأردن، وبعد ذلك تلقفها منهم مشايخ الإخوان والصحوة، وخاصة من مصر، حيث بدأ الحديث عن إسلام البترودولار، والإسلام السعودي والوهابي، والإسلام النفطي والفقه البدوي.
03 هو ما قامت به قطر منذ عام 1997 باستغلال أدبيات الصنفين الأول والثاني في جيش إعلامي يكرس هذه الصورة النمطية ويركزها على السعودية والإمارات مع البعد عن مصطلح الخليجي في الهجوم حتى تخرج قطر من الدائرة.
أما الخط الأول فهو النهج الواضح للسعودية منذ أيام الملك عبدالعزيز؛ وهناك أحداث وأشخاص حول مشاركة السعودية في حروب فلسطين من بعد النكبة من خلال مشاركة الجيش السعودي في الحرب، ولعل المؤرخين العسكريين يشرحون دور اللواء إبراهيم الطاسان والعميد سعيد كردي، لكن هناك دورا لفهد بن مارق بن عبدالعزيز المعروف بفهد المارك، عندما كان طالبا هو وعبدالله بن خميس في دار التوحيد في الدفعة الأولى، وعندما وقعت الحرب تطوع هو وابن خميس لتدريب الطلاب على الرماية عند جبل السكارى بقروة بالطائف، لأنهما الوحيدان اللذان يملكان بندقيتين، ثم عينه الملك عبدالعزيز قائدا للفوج العربي السعودي ضمن جيش الإنقاذ عام 1948، وأصبح فيما بعد أول مندوب سعودي لمكتب مقاطعة إسرائيل، وتقديراً له منح وسام الملك عبدالعزيز كما منحه ياسر عرفات وسام القدس الشريف، وهو أعلى وسام فلسطيني، وسمّى الملك سلمان، أيام كان أمير الرياض، أحد الشوارع باسمه، كما أطلق اسمه على أحد شوارع طولكرم بفلسطين تقديراً لدوره مع بقية السعوديين في معركة المالكية شمال فلسطين، ووثق كل ذلك في كتاب سجل الشرف، ودور اللواء محمد بديرة في حرب الاستنزاف مع أفراد اللواء من تبوك لتعزيز الدفاعات السورية في سعسع وفي غور الصافي، مما دفع حافظ الأسد إلى توديعهما عند انتهاء مهمتهما، ووصفهما العماد مصطفى طلاس بأوصاف فاخرة، والدور المحوري للملك فيصل في حرب 73 معروف ومشهود، بالإضافة إلى الدعم السياسي والمالي المستمر منذ بداية النكبة، وكل جيلنا يذكر التبرعات التي أطلقها أمير الرياض آنذاك سلمان بن عبدالعزيز تحت شعار ادفع ريالاً تنقذ عربياً، رداً على حملة ادفع دولاراً تقتل عربياً وتبناها المغني فرانك سيناترا، وكلنا يذكر مكاتب اللجنة الشعبية لدعم فلسطين في معظم مدن المملكة، وكذلك التبرعات والإعانات التي قدمتها السعودية للاجئين الفلسطينيين وللإعمار في الضفة الغربية وغزة وترميم المسجد الأقصى.
هذه الأصناف الثلاثة من الذين لا يمكن أن تتلاقى خطوطهم مع المواقف الواضحة والصريحة للسعودية تجاه فلسطين لا علاج لهم لأنهم أسرى المصالح أو الصورة النمطية أو ما يؤمنون به، والالتفات إليهم أو الاهتمام بأمرهم ضياع للوقف والجهد، أذكر في عام 1997 أنه كان هناك موظفان في شؤون الطلاب في جامعة UCF في فلوريدا من أصل فلسطيني لهما موقف سيئ من السعودية والطلاب السعوديين بالجامعة، والغريب أن الذي كان يحاججهما دائما بروفيسور شاب أميركي من أصل إيراني متخصص في العلوم السياسية، وقال لهما: أنتما لا تحتاجان إلى تصحيح معلومات، وإنما إلى تحليل نفسي، وفي المقابل هناك شخصيات موضوعية ومحبة ومنصفة من السياسيين والمفكرين والإعلاميين والأدباء، من أساتذتنا وزملائنا وأصدقائنا، ودرسنا على يد كثير من أساتذتنا الفلسطينيين، وممن قام بالتدريس في مدارسنا في الأيام الخوالي في نجران والقنفذة، أديبان من فلسطينيي 48، كتبا روايتين عن تجربتيهما في ذلك الوقت، ولقيتا انتشاراً ورواجاً، وترجمتا إلى لغات عديدة، وقيل وقتها إنهما يسيئان إلى المملكة، متناسين أنها رواية تقاس بالمعايير الفنية وليس بالتوثيق التاريخي، وكتب إبراهيم نصر الله «براري الحمى»، ويحيى يخلف «نجران تحت الصفر»، التقيت بإبراهيم نصر الله في الرياض وهو يتحدث عن تجربته حديث المحب، وجلست مع يحيى يخلف في الطائرة من عمان إلى القاهرة ولا حديث له إلا عن تجربته الثرية في تلك الفترة بكل ظروفها الاجتماعية، ويتحدث عن النهضة الشاملة التي تحققت بعدها.
قدر السعودية أن تكون كبيرة في محيطها العربي والإسلامي، ومؤثرة في محيطها الدولي، فهي بالإضافة إلى وجود الحرمين الشريفين ومكانتها الاقتصادية والسياسية تتمتع بميزة لخصها الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر في مذكراته عن سمات الساسة السعوديين على مر العهود الرئاسية، قائلا: «السعوديون وحدهم يقولون في العلن ما يقولونه تماما في المباحثات الخاصة»، وهذا ما أكسبهم المصداقية، في الوقت الذي نرى فيه زعماء دول يقولون لنا شيئاً ويتصرفون بخلافه، رأينا ذلك في مواقف بعض الدول الشقيقة أيام جبهة الصمود والتصدي، ورأيناه مراراً في موقف قطر والسلطة الفلسطينية وغيرها، ومع ذلك يذهبون ثم يعودون، وحتى في السياسة العالمية كانت تقارير مراكز الأبحاث عام 2014، و2015 التي تغذي السلطات الأميركية تتحدث عن 3 دول في الشرق الأوسط تعتبرهم لاعبين أساسيين (إيران وتركيا وإسرائيل)، وليس من بينها دولة عربية، والآن تتحدث مراكز الأبحاث نفسها عن أن السعودية هي رمانة الميزان، وهي الدولة الشرق أوسطية العربية الوحيدة التي تملك مفاتيح الحل، من خلال خادم الحرمين وولي العهد محمد بن سلمان.
ودولة بهذا الوزن والتأثير قدرها أن تعمل وفق المبادئ التي قامت عليها، والمصداقية التي تبنتها، وقدرها أن تتلقى هذا الهجوم المفضوح بسبب مواقفها الصلبة من قضية فلسطين، ويقوم المهاجمون بالإشادة بالدول التي فتحت سفارات في إسرائيل كتركيا، أو استقبلت رئيس وزراء إسرائيل كقطر، أو يتلقى أزلام عزمي بشارة تعليمات عضو الكنيست الإسرائيلي ليشكك في الموقف السعودي، ويحرك أزلامه بأموال قطر ذات العلاقات الدافئة مع إسرائيل، هذا هو قدر السعودية أن تكون نموذجا للمصداقية في الوقت الذي يغرق فيه البعض في النفاق السياسي، وهي مدركة بوضوح المواقف السافرة والمبطنة، والأصابع التي تحيك المؤامرات، وتعرف في الوقت نفسه كيف تتعامل معها، فإلينا يا من أتعبكم الظلام.