جمال بنون

 احتفت الأمم المتحدة الأسبوع الماضي باليوم العالمي لمكافحة الفساد والسلام والأمن، الذي يصادف التاسع من كانون الأول (ديسمبر) من كل عام.

وبحسب تقرير المنظمة، فإن قيمة الرشاوى تصل إلى ترليون دولار، في حين تصل قيمة المبالغ المسروقة من طريق الفساد ما يزيد على ترليونين ونصف ترليون دولار، وهذا المبلغ يساوي خمسة في المئة من الناتج المحلي العالمي، وفي البلدان النامية يحرق الفساد خطط التنمية، إذ تقدر قيمة الفاقد، بسبب الفساد، بعشرة أضعاف إجمالي مبالغ المساعدة الإنمائية، وبالتالي فهي تنعكس سلباً على التعليم والصحة والعدالة والديموقراطية والازدهار والتنمية.

برز اسم السعودية، خلال الشهرين الماضيين، بوصفها أحدث اللاعبين الجدد في مكافحة الفساد من بين الدول النامية، على رغم أن جهودها مبذولة منذ سنوات لمكافحة الفساد، لكن هذه المحاولة لم تكن واضحة بالنسبة إلى المراقبين والمهتمين، إلى أن جاء القرار الذي أصدره الملك سلمان بن عبدالعزيز أخيراً؛ بتشكيل لجنة عليا لـ«مكافحة الفساد»، برئاسة ولي العهد، وزجت في أولى خطواتها بالذين حققوا ثروات هائلة بطرق غير مشروعة، وكذلك تحرك النيابة العامة، وانضمام هيئة مكافحة الفساد (نزاهة)، وديوان المراقبة العامة، مع جهات أمنية أخرى، أثبتت قوتها ومقدرتها على إيقاف أي مسؤول مهما كان منصبه.

العام الماضي وضع مؤشر مدركات الفساد السعودية في المرتبة الـ62 عالمياً، والرابعة عربياً، في ترتيب الدول الأكثر فساداً، وعلق حينها مسؤول في هيئة مكافحة الفساد بأن ترتيب السعودية لا يعكس الوضع الطبيعي لها، فضلاً عن استمرار النقص في المعلومات، التي تجمعها المصادر المعتمدة من منظمة الشفافية الدولية.

بالتأكيد، خطوة السعودية في مكافحة الفساد هذه المرة تختلف عن الطريقة التي كانت تتبعها في السابق، أو كانت تسير عليه، فهي انتقلت إلى المرحلة الأهم في مشروعها التنموي، من ملاحقة المتنفذين الصغار الذين يستغلون السلطة، إلى الرؤوس الكبيرة الذين حققوا مكاسب كبيرة ونهبوا المال العام والأراضي وهرّبوا أموالاً إلى الخارج. القائمة ضمت أمراء ووزراء ومسؤولين في مناصب عليا، هذا ولم يحدث أن ألقت الحكومة بمسؤول رفيع في السجن بتهمة الاختلاس.

ربما تكون السعودية هي الدولة الوحيدة التي استبدلت السجون بفندق فخم خدماته من فئة سبعة نجوم، لإقامة الأشخاص الذين تم ايقافهم على ذمة التحقيق.

وبمثابة إجراء مبدئي، أوقفت 320 شخصاً، في حين أحالت الملفات إلى النيابة العامة تمهيداً لمحاكمتهم، وفي إجراء متصل أوقفت الجهات الحكومية 376 حساباً مصرفياً إلى حين الانتهاء من التحقيق، وبحسب تصريحات النائب العام، فإن 95 في المئة من الموقوفين وافقوا على التسوية المالية لإطلاق سراحهم، ومن المتوقع أن تجمع الجهات الحكومية من الموقوفين ما يزيد على 100 بليون دولار باعتبارها مرحلة أولى. خطوة مكافحة الفساد في السعودية هي رحلة «الألف ميل»، ولا تزال في أول الطريق.

ليس الفساد المالي والإداري هما ما يعوق تقدم السعودية، فهناك أنواع كثيرة من التحايلات التي يلجأ إليها أصحاب المصالح، قد لا يكتشفها المحققون في جرائم الفساد، مثل الفساد الممنهج، وانعدام المساواة الاجتماعية، وغياب تكافؤ الفرص للجميع، وصعود قيادات ومسؤولين غير مؤهلين إلى المناصب، واستغلال تلك المناصب في حرمان الأشخاص الأكفاء من العمل، في حين أظهرت تقارير صحافية أن مسؤولاً حكومياً اختار أقاربه للعمل في إحدى الوزارات، كما أن مجلس التنمية الاقتصادية ألغى العام الماضي مشاريع بقيمة ترليون ريال، لأن بعضها لم ينفذ، في حين كانت الأخرى مشاريع وهمية.

حالياً، لا بد أن تبحث الجهات المختصة ومجلس الشورى إصدار قانون يحمي المبلغ عن الفساد في موقع عمله، كي لا يلحقه الضرر، إذ إن تجاهل هذا القانون ربما لا يشجع أشخاصاً آخرين على التبليغ، وهذا الموضوع يقلق كثيراً من المتعاملين لأجل كشف الفساد. مؤشر مدركات الفساد يشير بوضوح إلى أن التوزيع غير المتساوي للسلطة في المجتمع يخلق حلقة مفرغة لتنامي الفساد، على سبيل المثال؛ أظهرت قضايا الفساد من بتروبراس وأوديبرشت في البرازيل، إلى رئيس أوكرانيا السابق فيكتور يانكوفيتش، كيف أن التواطؤ بين الشركات والساسة يؤدي إلى حرمان الاقتصادات الوطنية من بلايين الدولارات، من العائدات التي حولت إلى جيوب القلة على حساب الغالبية. هذا الفساد ينتهك حقوق الإنسان ويحول دون التنمية المستدامة. كما يؤكد «المؤشر» أن الإصلاحات التكنوقراطية الجزئية لا تكفي، كوضع التشريعات لمكافحة الفساد، فالمطلوب في شكل ملح الإصلاحات العميقة الممنهجة التي تزيل اختلال السلطة والثروة المتزايد، من طريق تمكين المواطنين من إيقاف الإفلات من العقاب ومحاسبة أصحاب المناصب، ولا بد أن تشمل الإصلاحات أيضاً الكشف عمن يملكون الشركات من طريق السجلات العامة، وكذلك فرض عقوبات على الأشخاص الذين ينقلون الأموال المحصلة من طريق الفساد عبر الحدود، كما أشار إلى أن دول مناطق النزاعات في الشرق الأوسط شهدت أكبر قدر من الانحدار، مثل اليمن وسورية والعراق وليبيا.

أعتقد أن من الإنصاف أن يصدر تقرير مؤشر مدركات الفساد المقبل واضعاً السعودية في مراتب جيدة ضمن الدول التي تسعى وتجتهد لتكون في مصاف الدول المتقدمة في مكافحة الفساد وإظهار النزاهة.