طيب تيزيني

طالما مرّت على البشرية مراحل ومشكلات وتحديات كان الناس فيها يعتقدون أن أسوأ ما في التاريخ قد ولّى إلى غير رجعة..

وهذا الوهم في الاعتقاد بنهاية تردي التاريخ وأخطائه ظل يوهم بعض أصحاب العقول الضعيفة أو المتماكرة وكأن التاريخ صُفّي من أخطر ما فيه من خطايا وشرور، غير أن الأمر ليس كذلك.

ويقال إن «التاريخ الماكر» قد يظهر ليطيح من يقف في مواجهته، والإطاحة هذه قد تصيب غالباً فئتين اثنتين، فئة البؤساء وفئة الماكرين المستفيدين من ذلك، وهنا نجد أنفسنا أمام السؤال التالي: أما كان الرئيس الأميركي دونالد ترامب يعلم مدى خطورة خطوته الممهورة بتوقيعه على تحويل السفارة الأميركية في إسرائيل إلى مدينة القدس؟! هل هذا الاستعلاء مُتأتٍّ من كونه رئيس الولايات المتحدة الأميركية بحيث أصبح «الآخر» الفلسطيني نقطة صفر في الاعتبارات الدبلوماسية الدولية بالنسبة له؟! ولعله قد نسي أن طفلاً من الفلسطينيين يعادل لحظة عُمر، هي لحظة الكرامة! فالمنهجية الاستعمارية تعود من جديد، بإعطاء من لا يملك لمن لا يستحق! ألم يدرك ترامب أن أثمن رأسمال في العالم هو الإنسان المكافح من أجل العالم الجديد، عالم الحرية والعدل والكرامة وحق تقرير المصير.

لقد مثل الموقف الأميركي وقفة تاريخية في وجه الشعوب العربية والمسلمة والقضايا الوطنية بصفة عامة، وقد يبث السموم الأيديولوجية المتطرفة في بعضها، ما قد يجعل البعض يرى في نمط تغير الموقف الأميركي دافعاً محتملاً لتحفيز أحوال التردي وزعزعة الاستقرار في المنطقة.

إن ما قفز الآن إلى السطح إنما هو الذي كان يمثل القاع العميق للفكر الاستعماري وربيبته الصهيونية والفكر الصهيوني، كما زرعه الغرب في «العالم الثالث»، الذي يمثله الوطن العربي وغيره.

والملاحظ المدقق يضع يده على جهود الصهيونية في تفتيت الحالة العربية الراهنة، لإضعاف موقفها في مواجهة التحدي الصهيوني، أو ولعل هذا أحد الأوجه الخطيرة للمسألة، التحدي الصهيوني وداعموه في الغرب بشكل عام! هذا مع الإشارة إلى أن إسرائيل ضغطت على بلدان غربية أخرى لنقل سفاراتها إلى القدس، يداً بيد مع القرار الأميركي.

ومن هنا، فإن هذا التناقض والتعارض بين ممارسات الغرب في دعمه للاحتلال والقيم التي يزعم الدفاع عنها يستدعي في الذهن ثلاث نقاط حاسمة.

أما الأولى وهي أقدمها، فنجدها لدى المفكر ماركس الألماني من القرن التاسع عشر، فقد أعلن في حديثه عن تحويل البشر إلى أصنام حجرية ضمن النظام الرأسمالي، الذي كان آخذاً في الولادة والهيمنة، ما يلي: «كما ارتفعت قيمة الأشياء، هبطت قيمة الإنسان»!، وقد جاء ذلك في سياق حديثه عن مفهوم «الاغتراب الإنساني» في مجتمع يحوّل البشر إلى حجر، ما يتوافق مع المجتمع الرأسمالي القائم على المال والسلعة، ها هنا نكتشف بذور كل نزعات التطرف والأصولية في مثل هذا المجتمع التفكيكي.

أما النقطة الثانية ذات الأهمية العميقة بالنسبة إلى موضوعنا، فتُقدّم معالمها العظمى في الشاهد التالي: يقول المفكر العربي السوري النهضوي نجيب عازوري في كتابه المؤسس «يقظة الأمة العربية» عام 1948: «إن ظاهرتين مهمتين متشابهتيْ الطبيعة، بيد أنهما متعارضتان، أعني يقظة الأمة العربية، وجهود اليهود -الصهاينة- الآتين لإعادة تكوين مملكة إسرائيل، اليهودية الصافية، ومصير هاتين الحركتين، أن تتعاركا باستمرار حتى تنتصر إحداهما على الأخرى»!

وتبقى المسألة الحاسمة الثالثة، وتكمن في الفكرة التالية المتأتية عن النظام العولمي المعيش الآن، وتقوم على التالي، عفا الله عن الإنسانية، وأهلاً وسهلاً بـ«السّلع» التي توحّد المجتمع الأوروبي الراهن في حاضره ومستقبله وأحلامه!

هكذا إذن، عفا الله عما سبق، وأهلاً بالسلع وصنّاعها من أصحاب المال والسلطة في المجتمع إياه، وهكذا تفعل إسرائيل الصهيونية..

إنها تفكك القيم الوطنية والأخلاقية الإنسانية، بغض النظر عن التاريخ العالمي الإنساني الثقافي والديني والاجتماعي..

الخ، إنها تفعل ذلك -ولن يتحقق لها- باسم فكرة خرقاء قدمها رجل أخرق ومغموس في الفكر الصهيوني، هي الزعم بأن القدس ستكون عاصمة لدولة الاحتلال للصهيونية، وهو وهْم لن يتحقق لا للصهيونية ولا لداعميها في الغرب.