إبراهيم غرايبة

على رغم كل ما يقال أو يمكن أن يحدث بالنسبة الى عملة بتكوين Bitcoin وتحدياتها، فإن معنى الثروة والمال بدأ يتغير مع صعود الشبكية، وسواء بقيت بتكوين أو اختفت فمن المؤكد أن التعبير عن المال والثروة سوف يتخذ صيغاً وأشكالاً جديدة، والبنوك أيضاً والمؤسسات المالية والمصرفية تواجه التحدي نفسه الذي تواجهه العملات النقدية والأنظمة المصرفية.

كانت الثروة هي المواشي من الأغنام والأبقار والخنازير والجمال، ثم صارت الأراضي والزروع والثمار، ثم الذهب والفضة، ثم النقود بما هي سندات ترمز الى ما يملكه حاملها من ذهب وفضة، ثم أصبحت رمزاً مستقلاً بذاته بلا غطاء من الذهب، ثم اتخذت الثروة رمزاً الكترونياً وصارت آحاداً وأصفاراً مصفوفة في الحواسيب، وإن كانت مغطاة بالنقود! ويمتلئ التراثان العربي والعالمي بالجدل حول معنى الثروة، فيروي ابن أبي الدنيا في كتابه «إصلاح المال» أن معاوية سأل بعض المعمرين أي المال أفضل؟ قال: عين خرارة بأرض خوارة، تعول ولا تعال، قال ثم ماذا؟ قال: فرس في بطنها فرس يتبعها فرس، قال: أين أنت من الغنم، قال: تلك لمن يباشرها بنفسه، قال: فما تقول في الذهب والفضة؟ قال: جبلان يصطكان إن أنفقتهما نفدا، وإن تركتهما لم يزيدا.

ويقـــول الشاعر الجاهلي الأعشى، ساخـــراً ممــن يتخذون الزراعة مورداً:
لسنا كمن جعلت إياد دارها
تكريت تنظر حبها أن يحصدا
جعل الإله مالنا في إبلنا
رزقا تضمنه لنا لن ينفدا

ويبدو اليـــوم ما يميز الثروة الجديدة أنها تتحــول من الاعتماد المتبادل بين الموارد والأفكار إلى الاندماج بينهما، لدرجة لم يعد ممكـــناً التمييز بينهما أو وصف العلاقة المنشئة الأفكار أو الموارد. فالسلع نفـــسها اليوم المستخدمة في العمـــل والحياة والموارد هي أفـــكـــار، وصــارت مـــوارد الأمم والأفراد مستمدة مــــن الوقت والتـــركيز والخيال والإلهام والإبداع، وصـــارت تتقـدم بــقدر ما تملك من حرية وخيال.

وبالطبع، فإن الثروة في تحولاتها تعكس الصـــراع والتنافس حول الموارد، وفي ذلك فإن المعرفة بما هي المورد الرئيسي اليوم تعيـــد تشكيل الطبقات والمؤسسات. وهذه هي أزمة الأوليغاركيا اليوم مع المعرفة؛ كيف وماذا تقدم وتتيح من المعرفة مع مواصلة الهيمنة؟ كيــف وماذا تمنع من المعرفة؟ وهذا يفسر أيضاً الفتاوى وقوانين النشر والاستيراد والتصدير والعمل والتمويل والتجارة والصناعة، فالسياسة والقوانين تصمم على النحو الذي يمنع الناس من المعرفة إلا بقدر ما تحتاج الأوليــغاركيا أن يعرفــوا. 

وعلى هذا الأساس، يمكــن تفسير التحريم أو منع أو تجاهل تعلم الفلسفـــة وتعليمها مثلاً، أو إهمال الفنون والإبداع والتفكيـــر النقدي وحظر الطابعات ثلاثية الأبعاد والطائرات من دون طيار، وحرمان المواطنين والمجتمعات من فرص ومنافع الشبكية.

والحال أن المدارس والجامعات والمهـــن السائدة والمناهج التعليمية والمحـــتويات الثقافـــية والإعلامية السائــدة تمضي إلى الهاوية والفـــناء، وسوف تبذل الأوليغاركيا جهدها في حصــر التعليم الحقيقي في أقلية من الناس، وأما ما يعلّمه الناس لأنفسهم من الموارد الشبكية المتاحة فإنه سيكون غير معترف به حتى وإن امتلك المهمشون معارف ومهارات تفوق ما تقدمه المدارس والجامعات الأنيقة المكلفة، وفي كون الثروة اليوم تقع بعيداً من الإنتاج الأساسي؛ وتحتكرها الأوليغاركيا بطبيعة الحال؛ صار المواطنون والمنتجون فقراء.

وبطبيعة الحال، فإن النضال الإصلاحي يتخذ أهدافاً ومصالح مثل مشاعية الإنترنت، وتشجيع الإبداع والتعليم الإبداعي، ويكون العدل بما هو هدف الإصلاح ومركز الحياة يعني الاعتراف للناس بحقهم في الشبكة وأن يكون الوصول إلى الشبكة يعني المساواة والأهلية لجميع الناس بغض النظر عن التصنيفات التي منحتها المؤسسات التعليمية والسياسية والتي لن تظل قائمة، والاعتراف بقدرتهم على المعرفة والتنافس والتأثير من غير إجازة هذه المؤسسات الآيلة للسقوط، والتي لم تعد قادرة على منافسة الشبكة في توفير المعرفة والمهارات والفرص، وبطبيعة الحال أن يكون الناس هم أهل الولاية على مواردهم وبلادهم وتنظيمها. نتحدث عن العودة إلى المدينة أو استعادتها.


* كاتب أردني