محمد الرميحي

عُقدت في الكويت الأسبوع الماضي ندوة علمية مهمة، حضرها عدد كبير من المهتمين والمتخصصين في تاريخ الخليج، كانت بعنوان «علاقات عُمان بدول المحيط الهندي والخليج، في القرون الثلاثة من السابع عشر حتى التاسع عشر»، نظمها باقتدار واضح مركز الوثائق العُماني، بالاشتراك مع المجلس الوطني للثقافة والآداب في الكويت.


الأبحاث التي قُدمت على مدى ثلاثة أيام كانت ثرية ومتعددة المداخل. وليس غرض هذا المقال الدخول في تفاصيل ذلك الحوار المعمق الذي تناولته الأوراق أو المناقشات. ما يلفت النظر أن مجمل الأوراق قد ناقشت منصة مشتركة، هي تكرار التدخل الإيراني في شؤون الخليج، ومحاولة إيران على مر سنوات طويلة في تلك الفترة النيل من القوى القائمة، أو الدولة العربية في ذلك الوقت في شرق الجزيرة العربية، من أجل بسط هيمنتها عليها. وقد يفاجئ البعضَ من غير المتابعين أن «الدولة» بمعناها الحديث ليست طارئة في الخليج وفي الضفة العربية منه، فقد كانت هناك دولة في الجزيرة العربية قبل ظهور النفط بقرون من السنين، كانت الدولة السعودية الأولى والثانية موجودتين، وكانت الدولة العُمانية، إما بقيادة اليعاربة أو الأكثر البوسعيديين (الذين هم في الحكم اليوم) وكانت دولة شامخة ذات أسطول بحري لا ينافَس؛ بل كانت المشيخات الأخرى كالبحرين والساحل العماني (الإمارات اليوم) جميعها موجودة ككيانات سياسية.
ويمدنا التاريخ الذي جرى في القرون الثلاثة المذكورة بعدد من المحاولات التي كانت الدولة «الفارسية» آنذاك تقوم بها من أجل التوسع في الجوار، سواء في عُمان أو على الساحل الغربي للخليج العربي أو في اليمن! إلا أن معظم تلك المحاولات، وفي بعضها تمت له نجاحات مؤقتة، كان أحد أسباب نجاحها هو فرقة الطرف العربي، أو ما يمكن أن يعرف اليوم بالفريق الموالي لدولة خلف الأفق (فارس)، فقد كانت فارس القديمة في تلك العصور تستفيد من تلك الفرقة بين أطراف عربية داخلية في المنطقة المذكورة، لتقوم بمد نفوذها مستخدمة تلك المجموعات، وما إن يُقدر للعرب قيادة توحدهم حتى يتخلصوا من تلك الهيمنة؛ لأنها كانت تستخدم عناصر عربية في مد النفوذ والتوسع.
هذا الدرس الواضح من التاريخ، الذي كشفته أوراق الندوة المهمة بوضوح، ومن خلال كثير من الوثائق وفحص المختصين، يكاد اليوم يكرر نفسه، ولكن بحلة جديدة لها علاقة بالمتغيرات العصرية، ولكن الثابتة في منطلقاتها. إنها استخدام فريق داخلي للقفز على مقدرات البلاد. الحوثيون أحد شواهد اليوم، ولكن ليسوا هم فقط!
اليوم والخليج يتمتع بمصدر مهم للاقتصاد، وهو الطاقة النفطية والغاز، إضافة إلى موقعه الجغرافي المميز، فإن عودة الشهية «الفارسية القديمة» والإيرانية الحديثة تظهر جلية للعيان. أهدافها القديمة واضحة، ووسائلها الجديدة متاح سبرها. 
تعتمد إيران اليوم على مقولات لها علاقة بثلاثة منطلقات «آيديولوجية»، من أجل بث القبول بمشروعها لدى بعض العرب في الجوار، ومن ثم إتمام السيطرة على المنطقة، كما فعل «الأجداد الفرس».
المنطلقات الثلاثة هي: الأول «آيديولوجية المذهبية»، والثاني «حرب الاستكبار ونصرة المستضعفين»، والثالث «تحرير فلسطين»! تحت هذه الثلاثية الجديدة، تدفع إيران اليوم بمشروعها التوسعي كما دفعت فارس بمشروعها التوسعي «بمنطلقات مختلفة»؛ ولكن للأهداف نفسها، في القرون من السابع عشر حتى التاسع عشر!
لو وضعنا تلك المنطلقات الثلاثة تحت المجهر، وتمت محاكمتها عقلياً، لوجدنا كثيراً من الادعاءات تتهاوى، فالحديث عن أن إيران تحمي «الشيعة العرب»، أو هي وكيلة عنهم، لا يصمد أمام الحقائق الموضوعية، فأولئك الذين يتبعونها (آيديولوجياً) هم قلة القلة، نعم هم ناشطون بما تمولهم وتدعمهم به المؤسسات الرسمية الإيرانية؛ ولكنهم يبقون قلة، والكثرة من الشيعة العرب أو المستعربين في بلاد الخليج هم مواطنون لهم ولاء كامل لوطنهم. 
بعض الأقلام التي ترغب في تجاوز الحقائق تدعي أن هناك «مظلومية» في بلد خليجي أو آخر للطائفة الشيعية، وهذا يدحضه أمران: إذا كان هناك حيف سياسي فهو لا يقع على فئة دون أخرى، والصحيح هو الاندماج في المواطنة لتصحيح الأخطاء وتقويم القصور للجميع، وليس لطائفة دون أخرى. والثاني أن النموذج الإيراني في الحكم والإدارة ليس هو ذلك النموذج المثالي الذي يطمح إلى تكراره عاقل، فهو ليس «ديمقراطية وستمنستر» أو «الممارسة الجفرسونية»؛ بل هو أبعد من ذلك بكثير، فهو ثيوقراطية مغموسة بأوهام، وأي عاقل ومتحرر من الضغوط الآيديولوجية يعرف تجاوزاً أن «نار الدولة الخليجية ولا جنة الملالي» إن صح التعبير. فإيران تقدم نموذجاً في الاقتصاد مثقل بالقصور والفساد، ويخلف ملايين العاطلين والجوعى، كما تقدم نموذجاً سياسياً يقلص الحريات إلى ما دون الصفر، ورده الدائم على أي خروج بالقول أو بغيره، هو المشانق بالرافعات! فهو - والأمر كذلك - ليس مكاناً جاذباً تحت أي ظرف أو تبرير، وهناك من الطائفة الشيعية أغلبية تعارض ذلك المشروع الكهنوتي. الذي يحدث أن الأقلية التي تناصره هي الأعلى في الصوت والأكثر تنظيماً، والأكثرية منخفضة الصوت وأقل تنظيماً؛ ولكنها تعرف معرفة يقينية أنه لا يجوز عقلاً استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير! 
يدخل مندمجاً المنطلق الثاني في البروباغندا الإيرانية مع الأول، وهو «نصرة المستضعفين»! وفي الحقيقة المستضعفون اليوم هم الشعوب الإيرانية التي يساق معظمها إلى ساحة الحروب والصراعات دون هدف إلا «تصدير الثورة»، كما يراها النظام الإيراني القائم حفاظاً على نظام الملالي.
أما موضوع «تحرير فلسطين» فهو بمثابة «احتقار عقول الآخرين السليمة»، وبيع السلعة للسذج فقط، فليس من الوارد أن يقوم النظام الإيراني بأي خطوة «تزعج إسرائيل» على الأرض، وها هي قضية القدس تتفجر على السطح السياسي بقوة، والقوى العسكرية الإيرانية لا تبعد كثيراً عن الحدود، سواء في سوريا أو في لبنان، إلا بضعة كيلومترات، ولن تحرك ساكناً. وتستطيع السلطات الإيرانية أن تثير كثيراً من الغبار الكلامي، ولكن لا غبار لآليات عسكرية تجاه حدود فلسطين!
تلك الآيديولوجيا ثلاثية المنطلقات، هي في الواقع شكل جديد من أشكال رغبة التوسع (الفارسي القديم والإيراني الحديث) في المنطقة الجغرافية المجاورة، وهي دول الخليج.
لقد قيض الله في التاريخ القديم - كما سمعنا وقرأنا في وثائق المؤتمر - من الرجال من وقف سداً منيعاً أمام محاولات فارس في الغابر من الأيام التوسع على حساب الجيران العرب، ولن يكون الخليج اليوم أقل عزماً أو قدرة على مقاومة هذا الطموح الإمبراطوري التوسعي الذي يلبس أثواباً جديدة، وعلى طهران أن تتدبر مرة أخرى دروس التاريخ!
آخر الكلام: يطرح قرار نقل السفارة الأميركية إلى القدس فتح سوق المزايدة، ولم تتردد دول الخليج في الوقوف مع القضية تاريخياً واليوم وفي كل المفاصل. هل تتذكرون وقف ضخ النفط الذي قاده الملك فيصل رحمه الله؟