أسماء الزهراني

على الرغم من فداحة جرحنا في القدس، كان الملاذ الأخير لتتحد الأصوات العربية التي أنهكها الخلاف على قلب رجل واحد، وليس ممثلو المجالس البرلمانية إلا متحدثين باسم الشعوب

شرفت اليوم بحضور قمة رؤساء البرلمانات العربية، ضمن وفد مجلس الشورى السعودي المشارك في أعمال الدورة الاستثنائية للاتحاد البرلماني العربي. وتضمنت القمة خطابات لرؤساء الوفود المشاركة، جاء من ضمنها خطاب رئيس مجلس الشورى السعودي، الذي أكد فيه على دور المملكة الريادي في احتواء القضية الفلسطينية، انطلاقا من موقعها القيادي في الأمتين العربية والإسلامية. وحمل رسالة خادم الحرمين الشريفين والشعب السعودي في تمسكه باستعادة الشعب الفلسطيني حقوقه المشروعة، بما في ذلك حقه في إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية.
وقد ثمن المتحدثون دور المملكة في تبني القضية الفلسطينية، منذ عهد المؤسس، مستذكرين مواقف ملوك المملكة، في نصرة الشعب الفلسطيني، وكانت كلمات الفيصل رحمه الله تحلق في فضاء القاعة، يسترشد بها الضمير العربي: 
«ماذا يخيفنا؟ هل نخشى الموت؟ وهل هناك موت أفضل وأكرم من أن يموت الإنسان مجاهدًا في سبيل الله؟ أسأل الله سبحانه أن يكتب لي الموت شهيدًا في سبيل الله؟». وأثنى المتحدثون على موقف خادم الحرمين الشريفين حفظه الله تجاه القرار الأميركي، الذي عكس استنكار المملكة وأسفها الشديد للقرار الأميركي بشأن القدس لما يمثله من انحياز كبير ضد حقوق الشعب الفلسطيني التاريخية والثابتة في القدس التي كفلتها القرارات الدولية ذات الصلة، وحظيت باعتراف وتأييد المجتمع الدولي.
أكتب هذا المقال وأنا أرى عيون المدينة المقدسة، مهد الديانات السماوية، وأولى القبلتين، تقلب النظر في الخطابات، تبحث بين السطور في لهفة عن أمل هنا، وحلم هناك، تتأمل الكلمات ما بين جلد للذات، وتغنٍ بالبطولات، صخب انفعال الخطاب وهدوء خطاب العقل، حتى جاءت كلمة رئيس مجلس الأمة الكويتي، الدكتور مرزوق الغانم، الذي قدم لكلمته بعرض مرئي يلخص وجع الشعب الفلسطيني المرابط، أطفالا ونساء ورجالا وشيوخا. لم تكن أي كلمة قيلت أبلغ من صرخة ثكلى، أو نشيج طفل، أو دمعة أب مكلوم. لقد قطعت المشاهد البشعة لجنود المحتل الصهيوني، وهم يعيثون في الأرض المقدسة فسادا، يريقون الكرامة العربية، ويمثلون بالضمير الإنساني، قطعت قول كل خطيب.
لقد تعمد الدكتور الغانم أن يهوي بالحضور إلى قاع الجرح الفلسطيني «بأقسى» سرعة، ليرفعهم بعد ذلك إلى سقف الأمل والإرادة، حين استنكر في خطابه جلد الذات، ونبرة الإحباط، وذكر المستمعين بما تحتاجه الشعوب العربية والمسلمة لتتحد خلف قضيتها الأولى. «نتحدث دوما عما علينا، وننسى ما لنا»، بهذه الكلمات افتتح خطاب الإرادة: «لنا الشباب الطموح، لنا المستقبل، لنا ذاكرة العالم القديم، لنا الحق في الأرض، لا التاريخ، لنا الإرادة الحرة، لنا البحر والنهر»، أقتبس منه وأزيد: لنا الشعب المرابط الحر، لنا كرامة العربي، لنا إباء المسلم، لنا الشجر والحجر، الذي سينتفض حين يتحقق وعد الله بالنصر.
وعلى الرغم من فداحة جرحنا الأخير في القدس، كان الملاذ الأخير لتتحد الأصوات العربية التي أنهكها الخلاف على قلب رجل واحد، وليس ممثلو المجالس البرلمانية إلا متحدثين باسم الشعوب، وقد جسدوا عمق المشتركات العربية، وضآلة الخلافات، وكانوا صورة لوحدة الصف العربي حول قضيته العظمى. لقد سئمت الشعوب العربية رنين الكلام، لكن وعد بلفور لم يكن سوى كلمة، أنشأت كيانا سرطانيا في قلب العالم العربي، وأخذت تسقيه بزرع الشقاق والخلافات في الصف العربي، ليس على مستوى القيادات فحسب، بل على مستوى المجتمعات، بمنطق «فرِّق تسدْ». وأملنا أن تحقق هذه الملتقيات تواصلا بين الشعوب العربية -عبر تمثيلاتها السياسية والشعبية- حول هذا الحدث، وتبعث رسالة للعالم، بأن الشعوب العربية قادرة على الاتحاد، وذلك الاتحاد هو أعظم سلاح يخيف العدو الغاشم، وحلفاءه، ويجبرهم على احترام إرادة الشعوب.