سمير عطا الله

كان الهاجس الأهم عند كارل ماركس تحسين أوضاع العمال، أو بالأحرى، إنقاذهم من العبودية والاستغلال. مسألة عاطفية ووجدانية وضع لها أبحاثاً ودراسات علمية وكتابه الشهير «رأس المال». وفي نظره كانت قيمة أي سلعة تساوي قيمة العمل الذي استغرقته: إذا استغرقت خياطة قميص نصف ساعة عمل، فهذه هي قيمتها. كان عمال العالم الذين ناداهم ماركس إلى الاتحاد أناساً متعبين، وفي حالات كثيرة، مظلومين.
هل القاعدة التي وضعها لا تزال قائمة؟ قرأت قبل حين خبرين منفصلين عن موضوعين شديدي الاختلاف، فذهب فكري فوراً إلى العمال. الخبر الأول، يقول إن شركة «أديداس» الألمانية لصناعة الأحذية سوف تسلم كل نتاجها إلى «الروبوت»، الرجل الصناعي، أي أنها سوف تكون في غنى عن جميع عمالها. وفي «الفايننشال تايمز» قرأت تحقيقاً عن أول مصنع للجبنة في بريطانيا، لا عمل فيه لبشري. «الروبوتات» وحدها تنتج كل يوم 6 آلاف قالب من جبنة «التشدر» التي «لا تستطيع منافستها أي جبنة فرنسية».
كل فترة نقرأ عن اختراع، أو علم جديد يؤدي إلى إلغاء حرفٍ وأعمال بأكملها في نهاية المطاف. منذ الآن يجربون في أميركا «السائق الآلي»، الذي سوف يحل بعد حين محل سائق الشاحنة، أو سائق التاكسي. تصعد إلى السيارة وتطبع «لها» العنوان الذي تقصده، وتتولى هي كل شيء آخر، بما فيه التوقف عند الضوء الأحمر، وإعطاء إشارة الاستدارة نحو اليمين، أو اليسار. وربما في المستقبل قد تؤدي عنك التحية إلى ركاب السيارة المحاذية.
أمضى ماركس عمراً حزيناً يدرس كيف يمكن رفع الغبن عن العمال. عمل الليل والنهار بلا كلل. وكان البقالون يطالبونه باستمرار بتسديد ديونه المترتبة. وكان أبناؤه وزوجته يعانون من المرض على الدوام. وعندما توفيت ابنته، اقترض جنيهين من جاره لكي يشتري نعشاً لها. وكان يمضي وقته في المتحف البريطاني باحثاً في الكتب التي تساعده على إثبات نظرياته، ثم يعود إلى المنزل ومعه ما دوَّن من ملاحظات ليمضي الليل يعمل عليها، مدخناً السيجار تلو الآخر، معانياً على الدوام من الدمامل في أصابعه بسبب كثرة الكتابة. وبعد عشرين عاماً، أكمل الجزء الأول من كتابه وهو واقف بسبب الالتهاب في مقعدته.
يبدو كل شيء عبثاً اليوم: العمال الذين كرس لهم ماركس حياته، إما هم في الظلم، وإما هم في منافسة مع آلة لم يكن يتصور أحد أنها سوف تحل محل الأيدي العاملة: تقطف الزيتون والعنب، وتصنع الأحذية، وتنتج أفضل الأجبان، وتقود السيارات في قلب نيويورك. «البورجوازية» اللعينة لا تكف عن مطاردة الفيلسوف.