يقف العالم اليوم متحداً ضد قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب بنقل السفارة الأميركية إلى القدس والاعتراف بها عاصمةً لإسرائيل؛ انتصاراً للقدس والسلام، ومبادئ العدالة، والقانون والأعراف والقرارات الدولية، ولأجندات سياسية في بعض الحالات حتى نكون أكثر موضوعية.

تستحق القدس - بالتأكيد - كل هذا الاهتمام وأكثر! وليس هناك إنسان عاقل منصف سواء أكان مسلماً أم غير مسلم يقبل أو يتقبل قراراً كهذا يقوّض عملية السلام الدائرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وينتهك ما صدر في إطارها من اتفاقات وقرارات، بما فيها اتفاق أوسلو 1993، الذي اعتبر القدس من قضايا الحل النهائي أو الوضع الدائم كما وردت نصاً في الاتفاق، ويمثل انحيازاً أميركياً واضحاً لإسرائيل على حساب حقوق الشعب الفلسطيني، ويكرِّس الهيمنة الأميركية الأحادية التي تصادم النظام الدولي وتهدد بنسفه!

القرار يمثل علواً واستكباراً أميركياً في ذاته وفي تبريراته، فقد ذكرت مندوبة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة نيكلي هايلي أن الرئيس ترامب تصرف وفقاً لرغبة الشعب الأميركي! كان ذلك في الجلسة الطارئة التي عقدها مجلس الأمن في تاريخ 8 كانون الأول (ديسمبر) 2017 بشأن القدس، والتي ظلت هايلي فيها تدافع عن قرار ترامب وحيدةً في مواجهة مندوبي الدول الأعضاء في مجلس الأمن جمعيهم، إذْ نددت 14 دولة من أصل 15 من الدول الأعضاء في المجلس بقرار ترامب!

السعودية - على رغم المستوى المتقدم الذي وصلت إليه علاقتها مع أميركا - وقفت بوضوح وحزم ضد قرار ترامب، وحذّرته من العواقب الخطرة لهذه الخطوة غير المبررة وغير المسؤولة، وأنها تمثل تراجعاً في عملية السلام، وإن كانت لن تغيِّر أو تمس الحقوق الثابتة والمصانة للشعب الفلسطيني في القدس وغيرها، ولن تتمكن من فرض واقع جديد عليها! واعتبرتها إخلالاً بالموقف الأميركي المحايد تاريخياً من مسألة القدس! وقد سلَّمت مجلس الأمن عن طريق مندوبها الدائم لدى الأمم المتحدة رسالة تشتمل على مضامين هذا البيان الصادر من الديوان الملكي رداً على القرار الصادر من البيت الأبيض!

موقف السعودية في هذا السياق واضح وصريح، ويتضمن مكاشفة جريئة لأميركا والعالم أجمع، تتجلى في كشف «سياسة الأمر الواقع» التي تلوح بين طيَّات قرار ترامب، وهذا لا يدعو للغرابة، لأن القدس والقضية الفلسطينية وآمال الأمة العربية والإسلامية تمثل للسعودية قيمة راسخة ومبدأ شرعياً ونظامياً (كما ورد في المادة 25 من النظام الأساسي للحكم)؛ ما يدعو للغرابة فعلاً؛ هو اتهام السعودية وخصوصاً من بعض الفلسطينيين بالتنكر للقدس وقضيتهم، والأشد غرابة، اتهامها بأنها تقف وراء هذا القرار الأميركي الذي وقف العالم كله ضده وفي مقدمهم السعودية! عموماً لا يضير السعودية هذا الموقف المنبوذ شرعاً وعرفاً وأخلاقاً، ولن يثنيها عن مضيها قدماً في الدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني، بما فيها إقامة دولته وعاصمتها القدس الشريف، لأنها باختصار لا تبتغي من وراء ذلك تحقيق غرضٍ سياسي أو أي غرض يحوِّل القضية برمتها إلى وسيلة لتحقيقه كما تفعل الكثير من الدول!

المثير للسخرية وربما للشفقة؛ أن الحكومة القطرية من خلال وسائلها الإعلامية تنشط في مباشرة وتكريس تلك الاتهامات الباطلة الموجهة للسعودية، إلى درجة أن إحدى وسائل الإعلام القطرية نشرت خبراً بعنوان: «مغرِّدون يحملون السعودية مسؤولية ما يجري في القدس»! وهذا أحد الشواهد على الخواء القيمي والفكري والسياسي والإعلامي الذي يحمله أولئك في جماجمهم! تالله لو كنت رئيساً لتحرير تلك الوسيلة الإعلامية - لا سمح الله - لطردت من كتب هذا الخبر شر طردة، ولاحقته قضائياً حتى أطرده من عالم الصحافة كلها!

قلتها وقالها غيري مراراً وتكراراً، مشكلة حكومة قطر أنها كلما وجهت اتهاماً للسعودية من خلال أذرعها الإعلامية، رُد إليها مع الإدانة! إلى درجة أنني أصبحت أشك أن الذي يدير هذه المسائل في قطر، يبتغي الإساءة إليها قبل أن يسيء للسعودية وغيرها من الدول! فهل يعقل أن تقوم دولة لها علاقات مع إسرائيل، وتبادلات تجارية، وزيارات ودية؛ باتهام دولة لم تعترف بها حتى الآن وتقف ضدها في كل منتظم دولي؛ بالتنكر للقدس والقضية الفلسطينية؟ أكبر تنكر لهما هو الاعتراف بإسرائيل وإقامة علاقات معها قبل إقامة الشعب الفلسطيني دولته متخذاً القدس عاصمةً لها!

قضية قطر صغيرة جداً في الأحوال العادية، فكيف بها إذا وضعت في كفة ميزانٍ تحمل كفته الأخرى قضية القدس! وهذا هو بيت القصيد، إذ من الضروري الانصراف نحو قضية القدس، وتكثيف الجهود الخليجية والعربية والإسلامية، ودعم الجهود الدولية ودفعها، بما فيها البيان الإيجابي الذي أصدرته عدد من دول الاتحاد الأوروبي، المتضمن عدم الاعتراف بسيادة إسرائيل على القدس، واستثمار الديبلوماسيات الرسمية والشعبية، وكل وسيلة من شأنها الإسهام في ثني الإدارة الأميركية عن قرارها، أو توسيع دائرة عدم الاعتراف بسيادة إسرائيل على القدس.