نبيل عمرو 

في الربع الأخير من القرن الماضي، انتهت العلاقة العدائية بين الفلسطينيين وأميركا، وحلّ محلها حوار حذر في بادئ الأمر، اعترته تعثرات وانتكاسات، إلا أن المسار العام مضى متصاعداً باتجاه علاقة سياسية ترقى إلى مستوى الشراكة، في أمر المشروع السياسي الفلسطيني الإسرائيلي.


فهمت الطبقة السياسية الفلسطينية التي عانت الأمرين من العداء الأميركي وتجلياته عبر القبضة الحديدية الإسرائيلية، أنّ الاعتراف الأميركي بها لا بد أن يفتح أبواباً واسعة أمامها، تدخل منها إلى منتدى التسوية الشرق أوسطية، وتحصل من خلاله على الدولة التي تحلم بها. 
وإذا ما أرّخنا للعلاقة السياسية الأميركية الفلسطينية، مبتدئين بفتح أبواب البيت الأبيض لياسر عرفات ومصافحته التاريخية لإسحق رابين، فمنذ ذلك الحين وأميركا على تماس تفصيلي بالوضع الفلسطيني، لدرجة بدا فيها أن ما قاله السادات من أن «99 في المائة من أوراق الحل هي بيد أميركا»، كان بمثابة المبدأ الذي اعتنقه الفلسطينيون وساروا عليه، فمَن غير أميركا ينتزع شيئاً من الإسرائيليين؟
الطبقة السياسية الفلسطينية، وفي مركزها وعلى رأسها ياسر عرفات، عملت مع الأميركيين داخل هوامش ضيقة فرضها الكونغرس، الراعي الأول والأخير لإسرائيل، وقامت الدولة العبرية بالتحكم فيها حتى الإغلاق الكامل في معظم الحالات.
لقد اكتشف الفلسطينيون، ومن خلال تجربة طويلة وغنية بالوقائع الدالة والتفاصيل، أن حكاية «التسع والتسعين في المائة» إن صلحت مع مصر فلا تصلح مع الفلسطينيين، وهنا بدأت تتكشف دراما الشهد والدموع حتى صارت عنواناً للمرحلة السياسية الأميركية الفلسطينية. الشهد هو الرهان والوعود والإغراءات والتخيلات، وأميركا على هذا الصعيد تمتلك مقومات مؤثرة في الإغواء، وإذا كانت قوى عظمى لم تفلح في تفادي أميركا وإدارة الظهر لها، فبأي منطق يفعل الفلسطينيون ذلك؟ مع أن الخذلان الأميركي لهم صار الحقيقة الأوضح في علاقاتهم بها. ووجد الفلسطينيون أنفسهم أمام مفارقة درامية مفادها أن الشهد الأميركي هو في الوعد، أما الدموع فهي في الخلاصات.
الواقع على الأرض يثبت صحة هذا الوصف بنسبة مائة في المائة، ولو قرأنا سيَر المبعوثين الأميركيين منذ بداية الرحلة حتى يومنا هذا، فإننا لن نجد ولو خلاصة إيجابية واحدة لكل الفعاليات التي اشتغل الأميركيون عليها.
كان الفلسطينيون يحصلون على شهادة حسن سير وسلوك في أمر الرغبة والرهان على السلام، ويحصلون على جوائز متواضعة لقاء ذلك، أما الحصيلة الأهم فهي في الجيب الإسرائيلي، وبالكاد كان الفلسطينيون يحصلون على وعد بمحاولة جديدة.
ظل الأميركيون على تماس تفصيلي مع الحالة الفلسطينية، واضعين الفلسطينيين في الحالة الدرامية نفسها، فكل الذين فشلوا أو أُفشلوا كانوا يتركون وراءهم فرجة ضيقة في الباب الذي أُغلق، فما إن يعلن مبعوث عن فشل نهائي لمحاولته، حتى ينهض وعدٌ أميركي جديد، وكان هذه المرة وعد صفقة القرن.
لا يلام الفلسطينيون كثيراً على تعاملهم الواقعي مع أميركا بوصفها خيراً أو شراً لا بد منه، فحصلوا على تشجيع على الرهان من جديد، قدمه من ظن الفلسطينيون وغيرهم أنه الأكثر قدرة على أخذ شيء من إسرائيل وإعطائه للفلسطينيين وشركائهم العرب، فتغاضوا عن كل المؤشرات القوية التي تحمل نذر قرارات خطيرة يُقدم عليها ترمب، ولحقوا أملهم الضئيل في أن يقوم الرجل الإشكالي باسترضائهم واسترضاء أشقائهم بقدر من التوازن فيما سيعرض.
كان الانتظار والرهان والتقديرات المتفائلة هو الشهد الأميركي، أما الخلاصات، وأولها قرار القدس، فكانت الدموع التي لا بد أن يحصل الفلسطينيون عليها وراء الشهد الأميركي.
لم يتخيل الفلسطينيون أن تتبدل علاقتهم مع الأميركيين بضربة قاضية كالتي حدثت، ولكن في السياسة كل شيء قابل للحدوث.