محمد فايز فرحات 

منذ صدور قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، ركزت تحليلات كثيرة على تأثير هذا القرار على العلاقات العربية- الأميركية، وعلى مدى قدرة الولايات المتحدة على تقديم نفسها كوسيط نزيه في عملية السلام بين العرب والإسرائيليين، أو على صدقية خطاب ترامب حول ما وصفه بـ «صفقة القرن»، وما إذا كانت هذه «الصفقة» ستعبر عن «سلام» حقيقي غير منحاز. وركز بعض هذه التحليلات على مدى قانونية هذا القرار في ضوء القرارات الأممية والمواقف الدولية المناهضة، ومدى قدرته على تغيير الواقع السياسي والديموغرافي لمدينة القدس.

إضافة إلى هذه الأبعاد يظل هناك بُعد آخر لا يقل أهمية، ويؤكد من جديد عدم إدراك إدارة ترامب لخطورة هذا القرار، ليس فقط بالنسبة لإقليم الشرق الأوســط وأنظــمته الســياسية، ولكن بالنسبة للمصالح الأميركية ذاتها، ألا وهو تأثير هذا القرار في مستقبل ظاهرة الإسلام السياسي.

ونطرح هنا فرضيتين رئيستين. الفرضية الأولى، أن هذا القرار قد يؤدي إلى تقوية تنظيمات الإسلام السياسي في المنطقة، وذلك بالنظر إلى الدور المهم الذي حظيت به القضية الفلسطينية، والصراع العربي- الإسرائيلي بعامة، في مقولات وخطاب هذه الجماعات، خلال مرحلة ما قبل الربيع العربي. ففي هذه المرحلة، والتي اتسمت بتقييد حركة هذه التنظيمات وعدم تمتعها بالمشروعية القانونية، لجأت الأخيرة إلى التركيز على قضايا إقليمية، كان على رأسها القضية الفلسطينية، وتطورات الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي عموماً، كواحدة من الأدوات التي لجأت إليها للحفاظ على وجودها السياسي، وبناء الجسور مع الشارع، وكوسيلة للتعبئة السياسية والحفاظ على تماسكها الداخلي.

شهدت تنظيمات الإسلام السياسي تراجعاً كبيراً بعد سنوات قليلة من بدء موجة الربيع العربي، وذلك عقب انكشافها الفكري والتنظيمي، بخاصة على خلفية ما كشفت عنه خبراتها الفعلية في الحكم- في مصر مثلاً- من زيف مقولاتها حول الاعتدال أو الإسلام الديموقراطي، الأمر الذي ساهم في حصارها على المستويين الفكري والاجتماعي، فضلاً عن انحسارها تنظيمياً بفعل الضربات الأمنية التي تعرضت لها على خلفية انكشاف علاقاتها الفكرية والتنظيمية مع التنظيمات الإرهابية. هذا الانكشاف خلق أزمة «تحدي بقاء» survival challenge لدى تنظيمات الإسلام السياسي.

الفرضية المطروحة أن قرار ترامب، وما سيخلقه من تداعيات سلبية متوقعة على مسار الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي قد يخلق فرصة ذهبية لهذه التنظيمات لإعادة توظيف قضية القدس والقضية الفلسطينية لمحاولة العودة مرة أخرى إلى الحياة السياسية، من خلال لملمة أشلائها، وبناء خطاب تلتحم من خلاله مرة أخرى مع الشارع بشكل تدريجي ودون أي تعاط مع القضايا الداخلية.

وتزداد خطورة هذا الاحتمال على خلفية عدد من العوامل، أهمها مركزية قضية القدس بالنسبة للعالم الإسلامي، والخبرة التاريخية لتنظيمات الإسلام السياسي في توظيف هذه القضية في مراحل تاريخية سابقة. أضف إلى ذلك وجود سقف للحركة الدولية للأنظمة الرسمية بالمقارنة بنمط الفاعلين غير الرسميين بشكل عام، وتنظيمات الإسلام السياسي خصوصاً. ففيما تتسم حركة الأولى بالانضباط، والتحرك وفقاً للبدائل السياسية العملية المتاحة والقابلة للتطبيق في إطار موازين القوى الإقليمية والدولية، فإن الخطاب السياسي للثانية لا يلتزم بسقف محدد، كما أنها لا تتصرف وفق منطق البدائل السياسية القابلة للتطبيق وذلك لخروجها عن القواعد الحاكمة للعلاقات الدولية، وعلى رأسها موازين القوى، والتكاليف السياسية والاقتصادية المحتملة.

ويرتبط بتلك الفرضية التأثير المتوقع لقرار ترامب على موازين القوى بين «حماس» والسلطة الوطنية الفلسطينية. لا شك في أن أحد العوامل التي ساهمت في اضطرار «حماس» للقبول بالمصالحة الأخيرة هو إدراكها للاختلال الذي طال موازين القوى بينها من ناحية، وحركة «فتح» والسلطة الوطنية الفلسطينية من ناحية ثانية، لمصلحة الأخيرة نتيجة عوامل عدة، يتصل بعضها بالتحولات الإقليمية، بخاصة خطورة ارتباط الحركة بالمحور الإيراني في المنطقة على خلفية الصدام الأميركي- الإيراني الذي بدأ سريعاً عقب وصول إدارة ترامب، وتصنيف النظام الإيراني كمصدر تهديد رئيسي لاستقرار الإقليم وكداعم للإرهاب، وفقاً لبيان الرياض (أيار/ مايو 2017)، الأمر الذي انطوى على خطر تحميل «حماس» تكاليف الارتباط بالمحور الإيراني. أضف إلى ذلك حرص الحركة على أخذ مسافة عن الحليف القطري على خلفية تطور المحور العربي المناهض للسياسات القطرية في المنطقة والذي ضمّ دولاً رئيسية لا تمكن معاداتها. ويتصل بعضها الآخر بالتحديات المالية التي واجهت الحركة خلال الفترة الأخيرة.

لكن في تقديري إن أحد أهم تلك العوامل يتصل بعدم قبول البيئة الراهنة، على المستويين الدولي والإقليمي، المشروع السياسي لـ «حماس» ولخطابها ومقولاتها الرئيسة، خصوصاً حول المقاومة وطريقة إدارة الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، وهو ما يفسر استباق «حماس» المصالحة مع السلطة بإصدارها في الأول من أيار 2017 وثيقتها المعنونة «المبادئ والسياسات العامة»، التي أدخلت فيها تعديلات مهمة في ما يتعلق بعلاقتها بجماعة الإخوان المسلمين، وموقفها من الاحتلال وعملية التسوية، والقدس، والمقاومة، والسلطة الوطنية الفلسطينية، ورؤيتها للعلاقة مع المجتمع الدولي والقوى العالمية.

فبجانب تجاهل الوثيقة الإشارة إلى ما جاء في ميثاقها التأسيس أنها «جناح من أجنحة الإخوان المسلمين بفلسطين»- في إشارة واضحة للرغبة في أخذ مسافة ولو تكتيكية عن الإخوان المسلمين- قبلت الوثيقة بديل إنشاء دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة، وعاصمتها القدس، على حدود الرابع من حزيران (يونيو) 1967، باعتبار ذلك «صيغة توافقية وطنية مشتركة»، من دون تحديد واضح لمفهوم القدس، وإن كان المعنى الضمني يشير إلى «القدس الشرقية».

الفرضية المطروحة هنا أن قرار ترامب وتداعياته المتوقعة على مسار الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، قد يؤدي إلى تغير في موازين القوى لصالح «حماس»، وإفساد عملية المصالحة الراهنة. وبمعنى آخر، فإن التحول المتوقع في موازين القوى الفلسطينية لن يرتبط بالضرورة بتحول في طبيعة التحالفات أو موازين القوى الإقليمية، بمقدار ما قد يرتبط في هذه الحالة بوجود مناخ داخلي وإقليمي مؤات لإضفاء نوع من الصدقية على خطاب «حماس» التقليدي بشأن طريقة إدارة الصراع مع إسرائيل، وقدرة جناحها المتشدد في لحظة معينة على إعادة النظر في التعديلات التي تم إدخالها على عدد من ثوابتها التاريخية، وفق ما عبرت عنه وثيقة «المبادئ والسياسات العامة». فعلى رغم ما ذهب إليه البعض من أن وثيقة أيار لا تعبر عن تحولات استراتيجية في البنية الفكرية والأيديولوجية للحركة، بمقدار ما تعبر في الواقع عن نوع من تأقلم الحركة مع تحولات البيئة العالمية والإقليمية، إلا أنه حتى مع دقة هذه الفرضية، فإن وجود بيئة عالمية وإقليمية مشجعة لهذه التحولات داخل الحركة كان شرطاً مهماً لاستقرارها واستدامتها على المدى البعيد.

وتزداد احتمالات انتكاس المصالحة الفلسطينية- الفلسطينية، ومراجعة «حماس» لوثيقتها في اتجاه مزيد من التشدد، تحت تأثير قرار ترامب، في حال التصعيد من جانب إسرائيل ونجاحها في إقناع دول أخرى بمحاكاة السلوك الأميركي، وتدهور كل من العلاقات الأميركية- الإيرانية والعلاقات التركية- الأميركية، ومن ثم خضوع القضية الفلسطينية لسلسلة من المزايدات الإقليمية «الإسلاموية»، الأمر الذي قد يضع حركة «حماس» تحت ضغط «تحدي بقاء» يدفعها إلى أخذ مسافة أكثر تقدما (تشدداً) بالمقارنة بالخطاب الرسمي للسلطة الوطنية، أو على الأقل شعورها بتحول موازين القوى الفلسطينية- الفلسطينية لمصلحتها وإعادة الاعتبار لمقولاتها وأفكارها التقليدية حول الصراع وطريقة إدارته، في شكل قد يدفعها إلى التنصل من المصالحة باعتبار أنها باتت في وضع لا «يضطرها» إلى تقديم هذا «التنازل».

وهكذا، في الوقت الذي توافقت فيه إدارة ترامب مع معظم أنظمة المنطقة في ما يتعلق بخطورة تيارات الإسلام السياسي ليس فقط بالنسبة إلى قضية تثبيت الدولة الوطنية، ولكن بالنسبة إلى قضية الحرب على الإرهاب أيضاً، إلا أن القرار الأميركي الأخير في شأن القدس لا يساهم في الحفاظ على هذا التوافق، بل إنه يصطدم في إحدى التوجهات الرئيسة لإدارة ترامب في شأن تنظيمات الإسلام السياسي، ويصطدم كذلك بالمصلحة الأميركية- العربية «المشتركة» في إنهاء حال الانقسام الفلسطيني- الفلسطيني كشرط رئيس لبناء «شريك فلسطيني»، في «عملية السلام» المزمعة، وتطوير خطاب فلسطيني موحد في شأن تلك العملية.