عبدالباسط سيدا

سألني أحد الناشطين الشباب من المشاركين في فاعلية جمعتنا في الآونة الأخيرة عمّا إذا كنت متشائماً إزاء ما وصلت إليه الأحوال في سورية، أو إذا ما كنت أقرّ بانتصار النظام على الشعب السوري اعتماداً على كل من روسيا وإيران، وذلك بعد سبعة أعوام حافلة بالتضيحات والعذابات والتصميم من جانب الشعب، وجرائم مستمرة غير مسبوقة ضد الشعب من جانب النظام.

وكان جوابي هو الآتي: لست متشائماً على الإطلاق، ولكنني واقعي، وأعترف بأن المرحلة التي نعيشها صعبة بكل المقاييس. علينا أن نجري قراءة متكاملة لكل ما حصل، ونمعن النظر في جوانب قوتنا، لنبني عليها، ونتوقف مطولاً عند الثغرات والأخطاء التي كانت، لنبحث في أسبابها، ونعمل على تلافيها عبر معالجة موضوعية، تأخذ في الاعتبار الإمكانات الذاتية، والتداخل الحاصل بين قضيتنا وحسابات المعنيين بمعادلات المنطقة من قوى دولية وإقليمية.

لست متشائماً ابداً، لأنني أتذكر ايام السبعينات والثمانينات والتسعينات، حينما كان عدد المعارضين الفعليين للنظام لا يتجاوز بضعة آلاف. وهؤلاء كانوا يتعرضون لضغط نفسي شعبي من أهلهم وجيرانهم وأبناء حاراتهم، لا دفاعاً عن النظام، وإنما خوفاً من بطشه وجرائمه. وكان ذلك الضغط أكثر تأثيراً من ذاك الآتي من جهة النظام. كانت المعتقلات في انتظار من ينكشف أمره، هذا إلى جانب التغييب والنفي. كما كان الحرمان من العمل والسفر، والمراقبة المستمرة، من نصيب من سجلّتهم أجهزة النظام المتشعبة على قائمة المعارضين.

أما اليوم، فالوضعية اختلفت تماماً. وبات الخوف لدى السوريين جزءاً من الماضي. ولدينا الآن مئات الآلاف من الناشطين والناشطات الشباب ممن وقفوا في وجه النظام بقوة وكبرياء، على رغم كل الثمن الباهظ الذي دفعوه أمام العالم أجمع، وما الفيلم الأخير الذي عرضه التلفزيون الفرنسي تحت عنوان: سورية الصرخة المكتومة، سوى نقطة من بحر يمثل عذابات السوريين والسوريات والجرائم التي تعرضوا لها.

النظام وعملاؤه هم الذين يعانون من الضغط النفسي والازدراء القيمي، حتى بات العديد ممن لم تنقطع صلاتهم مع النظام في يوم ما، يقدمون أنفسهم راهناً بوصفهم من المعارضين له، وذلك تحاشياً لمآلات العزلة الشعبية، أو الرغبة في الحصول على موقع ما ضمن وضعية لم تتضح قسماتها بعد.

النظام لم ينتصر ولن ينتصر قط، وإنما قد سقط منذ زمن بعيد بالنسبة إلى غالبية السوريين. وباتت وظيفته اليوم مقتصرة على تأدية دور الواجهة التي تغطي على التدخل الروسي والإيراني المباشر، وبكل أنواع الأسلحة والميليشيات والمرتزقة، حتى أن الروس اعترفوا بأنفسهم بأنهم قد استخدموا قوة غير مسبوقة ضد «الإرهابيين»، هذا المصطلح الذي اتخذوه متراساً لشن أعنف الهجمات على الأفران، والمدارس، والمراكز الصحية، وقوافل الإغاثة، والأسواق التجارية، والأحياء المدنية، وعلى كل القوى المناوئة للنظام ما عدا داعش.

أوضاع المعارضة بأجنحتها العديدة السياسية منها والعسكرية ليست على ما يرام. هذه حقيقة لا يمكن أن ينكرها أحد، هذا على رغم التفاؤل الذي كان، وربما ما زال موجوداً عند بعضهم، بعد مؤتمر رياض 2. كما أن هيئة المفاوضات الجديدة تعاني من ظروف لا تُحسد عليها، وهي تتعرض لضغوط هائلة شعبية، وسياسية داخلية، وإقليمية، ودولية، في ظل تفرّد الروس شبه الكامل بالملف السوري، وغياب لافت لدور أميركي وأوروبي مؤثر، مع مساندة رسمية معلنة من جانب أعضاء مجلس الأمن لمهمة المبعوث الدولي، ولكن من دون اعانته على مواجهة الهيمنة الروسية على الملف، هذه الهيمنة التي تتجلى عبر تعنت النظام، وتهرّبه الدائم من الدخول في مفاوضات مباشرة جادة حول مصير سورية والسوريين، وذلك لتيقّنه من أن هكذا مفاوضات ستكون بداية العدّ التنازلي لحكم تسلطي استبدادي إفسادي.

وما يستنتج من المعطيات الميدانية، والتحركات واللقاءات السياسية بين الدول في شتى الأماكن، ومن التصريحات العلنية هنا وهناك، ما نستنتجه من كل ذلك هو أنه لا حل قريب في سورية. ولن يكون هناك حل من دون دور أميركي فاعل لا تبدو ملامحه في الأفق راهناً، وبناء على ذلك ستستمر عملية جنيف على رغم عدم إنتاجيتها، لأنها تمثل الحد الأدنى من توافق دولي حول إدارة الأزمة في سورية وليس معالجتها، وذلك انتظاراً لما قد تستقر عليه الأوضاع الإقليمية والدولية مستقبلاً. وسيكون الملف السوري حينئذٍ ملفاً من بين ملفات التسوية بين الفاعلين الدوليين والإقليميين.
أما بالنسبة إلى كل ما يسوّق ويُقال حول لقاء سوتشي المرتقب، فهو في معظمه لايتجاوز نطاق سعي روسي لكسب المزيد من النقاط، وفرض واقع سياسي بهدف أن يتكامل مع ذاك الميداني الذي أسفرت عنه اجتماعات آستانة، ولكنه في جميع الأحوال لن يقدم الحل السحري الذي يراهن عليه بعضهم بنبرة تفاؤلية وردية لا تدعمها الوقائع. وأمر كهذا فحواه أن وضعية مناطق النفوذ التي تعيشها سورية راهناً ستستمر إلى أمدٍ غير محدد، ريثما تتبلور وتتحدد ملامح الاستراتيجية الأميركية الخاصة بالمنطقة، وسورية ضمناً.

ذلك على المستوى الدولي. أما على المستوى الوطني السوري، فالوضع يستوجب بذل الجهود لبلورة معالم مشروع وطني سورية حقيقي، يكون بالجميع وللجميع على أساس احترام الخصوصيات والحقوق، وطمأنة سائر المكونات المذهبية والقومية ومن دون أي تمييز أو امتيازات.

ومهمة كبيرة كهذه سينجزها شبابنا وشاباتنا الذين باتوا كهولاً بفعل التجارب القاسية التي مروا بها. فقد أكسبتهم تلك التجارب خبرة، وحكمة، وقدرة على الصبر والتحمّل، والتحرّر من عقد الأحكام الأيديولوجية المسبقة بمختلف أشكالها ومسمياتها.
وانسجاماً مع ما تقدّم، نرى أن الوضع الذي نعيشه في سورية لا يدعو إلى التشاؤم من طرف من خبر النظام الحاكم، وتعرّف إلى ممارساته، وقمعه، ومواطن ضعفه، عن كثب.

فهذا النظام هو في واقع الأمر يعيش في غرفة الإنعاش، يعتمد في بقائه على ما يوفره له الراعيان الروسي والإيراني من دعم عسكري وسياسي. ولكن الأمور لن تستمر هكذا إلى ما لا نهاية. وكما تغيّرت أولويات الدول الإقليمية التي وقفت إلى جانب الثورة السورية في بداياتها، ستتغيّر أولويات كل من روسيا وإيران في نهاية المطاف، وستبقى سورية للسوريين بعيداً من الاستبداد والإرهاب، ولكن شرط ألا يتملّكنا التشاؤم على رغم قسوة المعاناة.


* كاتب وسياسي سوري.