خالد العضاض

أسهم استقدام المدرسين المصريين، وبالأخص من الأزهر في ذلك الوقت، وكذلك العناصر البشرية المتخصصة في مختلف المهن، في دخول عناصر إخوانية كثيرة إلى السعودية

كان المنهج الديني السائد في نجد، إبّان بداية الملك عبدالعزيز بتوحيد البلاد، امتدادا للمنهج الديني القائم على مبادئ دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، رحمه الله، ومع التوسع الجغرافي للدولة السعودية الثالثة، كان على الثقافة النجدية التعاطي بأسلوب أو آخر مع مناهج دينية مختلفة، كان لزاما عليها الانضواء تحت المظلة السعودية، مثل الصوفية، والشيعية وغيرهما، وبعد أن ضم الملك عبدالعزيز الحرمين الشريفين لفت المجتمع السعودي نظر القيادات الدينية في العالم الإسلامي، مما جعل حسن البنا، زعيم جماعة الإخوان المسلمين، يعرض على الملك عبدالعزيز إنشاء شعب للإخوان المسلمين في نجد والحجاز، فقطع الملك عبدالعزيز بذكائه المعهود الطريق على البنا.
ظل المجتمع النجدي بعيدا عن دعوة الحركات الإسلامية، بسبب العزلة الصحراوية، وبسبب الممانعة الفكرية من التأثر بالمناهج المختلفة، إلا أن اكتمال نمو العقل السياسي الحكومي والشعبي وتوسع جغرافية الدولة، والانفتاح المتنامي، جعل البلاد عرضة للتأثر بمختلف التيارات الفكرية والسياسية التي يموج بها العالم العربي في ذلك الحين، خصوصا مع شمول التشكيلة الوطنية الجديدة، بعد توحيد المملكة لثقافات مختلفة، قليلة التجانس.
كان التأثير الإخواني الأبرز -إن لم يكن الأوحد- على مستوى الجماعات الدينية، في ظل عدم تحرك جماعات أخرى لممارسة مناشطها الدعوية داخل المجتمع السعودي، ولكون جماعة الإخوان المسلمين في ذلك الحين ما زالت متماسكة، ولم تتصارع داخلها بعد الأفكار المحفزة للانشقاقات التنظيمية والفكرية التي كونت الجماعات، والحركات التي عملت في نطاقات الحراك الإسلامي لاحقا.
بدأ احتكاك الجماعة مع المجتمع السعودي في بداية الأربعينيات الميلادية، حيث أسهم استقدام المدرسين المصريين، وبالأخص من الأزهر في ذلك الوقت، وكذلك العناصر البشرية المتخصصة في مختلف المهن، في دخول عناصر إخوانية كثيرة إلى السعودية، مما مهد مبكرا للعمل التنظيمي للجماعة داخل البلد، حتى إن المؤسس والمرشد العام للجماعة حسن البنا، كاد ينتقل بنفسه للعمل في السعودية لولا وجود بعض الظروف التي عاقت انتقاله، في مرحلة متقدمة من ترتيبات الانتقال.
وبقدوم الشيخ مناع القطان، والشيخ عبدالرزاق عفيفي، في الخمسينيات الميلادية، تم التمهيد لهجرة إخوانية كبيرة، كون السعودية قامت وبكل شهامة ومروءة وكرم باستقبال القيادات الإخوانية المضطهدة من بعض الأنظمة العربية، مما جعل السعودية ملجأ رائعا للتنظيم، أسهم في إعادة ترتيب الأوراق ومراجعة المستوى الحركي والفكري بعد الضربات المتلاحقة التي تلقاها التنظيم في مصر وبعض البلدان الأخرى.
كان تدفق قيادات وأفراد الإخوان على المملكة، بشكل منظم ومخطط له، سمح للقيادات الإخوانية بالعمل والتغلغل داخل العمق المجتمعي للدولة السعودية، وكان هذا التوجه من الدولة السعودية في ذلك الوقت يأتي ضمن حزمة إجراءات وأعمال داخل إطار فكرة الأمة الإسلامية والتضامن الإسلامي، مقابل الفكرة القومية، فتبنت المملكة إستراتيجية تقوم على استقطاب العلماء والمفكرين الإسلاميين، لتأكيد التوجه الإسلامي المنفتح على العالم الإسلامي، والاستفادة من خبرات كوادر وقيادات الإخوان المسلمين، في مواجهة المد الاشتراكي والقومي، خصوصا مع تواجد الحركات العمالية اليسارية في البلاد.
تم السماح للتنظيم بالعمل المريح والمرن، دون صفة رسمية معلنة، أو من خلال مكاتب رسمية في السعودية، على الرغم من أن السلطات السعودية كانت تصر على التعامل مع قادة التنظيم بصفتهم التنظيمية وليس الفردية كما تشير بعض الدراسات، وكان التنظيم يعمل تحت رقابة الاستخبارات السعودية والأجهزة الأمنية الأخرى، ومن هنا انصب العمل الإسلامي لهذه الجيوب الإخوانية التي انتشرت في أنحاء المملكة، خصوصا في البدايات، على الجانب الفكري الذي استطاعوا بثه ضمن أسس البنية التعليمية والإدارية في البلد الناشئ، بشكل طور الفكر الديني السعودي، ونقله إلى بعد حركي لم يكن معهودا من قبل.
استطاعت جماعة الإخوان المسلمين تجاوز التباين الواضح بين المنهج الديني السلفي القائم في السعودية، ومنهجية التنظيم، بالعمل على خيار تلاقي الفكرتين في منطقة مشتركة لضمان النجاح، فعملت القيادات الإخوانية الوافدة على إرساء وتمهيد اتساق وتوازي الفكرتين بما يخدم الأغراض التنظيمية للجماعة، وهذا ما مكن حركية الإخوان وبرامجهم، من جذب أفراد المجتمع السعودي، هذا التلاقي في المناطق المشتركة أنتج ما يمكن أن نطلق عليه السلفية الإخوانية، أو الإخوان السلفيين، وهي منهجية فصلتها جماعة الإخوان المسلمين بالمقاييس السعودية، مثَّلها من السعوديين الأوائل الشيخ عبدالرحمن الدوسري، والشيخ يوسف المدالله، والشيخ زيد الفياض، والشيخ حمد الصليفيح، وغيرهم، مما مكن الجماعة من إضفاء غطاء مناسب، ومبرر معقول للعمل الحركي داخل مجتمع متدين تدينا تقليديا بسيطا، لا يعرف العمل التنظيمي والحركي، ولم يعتد على تسييس الإسلام، وهذا في نظري لا يعني أن جماعة الإخوان المسلمين اقتصرت على التنظيم الحركي غير المباشر والمنفصل عن الجماعة، والذي سيعرف لاحقا بالسرورية، بل لما تهيأت الفرصة قامت بإنشاء أفرع وشعب رسمية سرية في بعض مناطق ومدن المملكة، بل أبعد من ذلك، فإنني أميل إلى أن العمل الحركي للتنظيم بدأ أثناء انتقال كوادر التنظيم إلى السعودية في الأربعينيات والخمسينيات الميلادية من القرن الماضي. هذا العمل شكل الأرضية والأساس الذي انطلق منه تيار الصحوة السعودية لاحقا، والتي كشفت عن وجهها بشكل عملي وتنفيذي في أواخر النصف الثاني من الثمانينيات الميلادية من القرن الماضي، عبر المعركة الشرسة مع الحداثة.