خالد الدخيل 

سيكون على المهتمين بالتاريخ السياسي لسورية مواجهة هذا السؤال: ما هي العلاقة بين التوريث، الذي وصل من خلاله بشار الأسد إلى رأس السلطة، وبين المآل الذي انتهت إليه الثورة السورية حتى الآن؟ لا تنبع أهمية السؤال في المقام الأول من التوريث ذاته، ولا من حقيقة أنه حصل في نظام جمهوري كان يوماً يخلط دعوى الاشتراكية منهجاً، والقومية العربية عقيدةً يستند إليها هذا المنهج. بل تنبع قبل ذلك وبعده من أن التوريث أضعف الرئيس، ومعه أضعف مؤسسة الرئاسة. المسار السياسي للرئيس الأسد منذ توليه السلطة في صيف عام 2000 بعد وفاة والده حافظ الأسد لا يترك مجالاً واسعاً لغير هذه الفرضية. حاول في البداية تقديم نفسه داخل سورية وخارجها على أنه رجل إصلاح وتطوير، شاب في مقتبل العمر، ينتمي إلى مرحلة تختلف عن مرحلة والده. درس في بريطانيا، ومهتم بالعلوم وتقنية المعلومات. كان تصور البعض أن سورية ستكون في عهده مختلفة. ستتجاوز، وإن في شكل متدرج، حال الانغلاق التي كانت عليها في عهد والده.

لكن الأحداث كانت تكشف تباعاً أنه لم يكن صادقاً ولا جاداً في وعوده الإصلاحية. كان يحاول تسويق نفسه، وتجميل عملية التوريث التي وصل بها. تبدأ هذه الأحداث بتهميش الحرس القديم، الذي كان معارضاً عملية التوريث، وهو الحرس الذي شارك والده في تأسيس النظام. يأتي في السياق ذاته ما كان يعرف بـ «ربيع دمشق»، الذي انطلق بتأثير من وعود الإصلاح، وما انتهى إليه على يد الأجهزة الأمنية للرئيس الجديد. ثم الغزو الأميركي للعراق وما أثاره من رعب داخل قصر الرئيس. وعلى صلة بمخاوف الأسد من الحرس القديم تضخم القلق من بروز القوة السياسية لرفيق الحريري في لبنان والطبقة السياسية التي كان يمثلها هناك. واللافت هنا أن مخاوف الرئيس السوري انتهت بحادثتين متتاليتين: فرض سورية التجديد للرئيس اللبناني حينها، إميل لحود، الخصم اللدود للحريري، ثم اغتيال هذا الأخير في ظروف انتهت بتوجيه التهمة رسمياً من محكمة دولية إلى «حزب الله»، أقوى حلفاء الأسد في لبنان.

أخيراً يأتي في ذروة تعاقب هذه الأحداث العاصفة انفجار ثورة شعبية في آذار (مارس) 2011. وهي ثورة بدأت بمطالب إصلاحية كان بإمكان الرئيس ونظامه استيعابها، بل واستغلالها للإقدام على إصلاحات كان هو من يعد بها منذ تسلمه السلطة. لكنه لم يفعل، بتعمد وإصرار واضحين! كان قراره مواجهتها، منذ اليوم الأول، بقوة السلاح، أملاً بوأدها، تيمناً- كما يبدو- بما فعله والده مع انتفاضة مدينة حماة عام 1982. عندها تبنت الثورة مطلب «إسقاط النظام». أمام ذلك، تبنى الأسد استراتيجية «إما وأد الثورة، وإما تدمير سورية». لم يتمكن من وأد الثورة، فحصل التدمير. وما زال مستمراً حتى الآن.

السؤال هنا: ما هي مؤشرات ضعف الرئيس ونظامه، التي تكشف عنها هذه الأحداث، واستجابة الرئيس لها؟ أكثر ما يلفت النظر أمام كل هذه الأحداث أمران متصلان يغذي أحدهما الآخر: ابتعاد الرئيس المستمر من السياسة والحلول السياسية، وبخاصة مع أبناء شعبه، ثم غرقه المتصل في خيارات العنف والقتل والتدمير، من ناحية، وانحيازه المتصل أيضاً، وبالتوازي مع ذلك، إلى تحالفات طائفية محلياً وإقليمياً، من ناحية أخرى. أنهكت الحرب، التي فرضها الرئيس، الجيش العربي السوري والانشقاقات التي فرضها ذلك. لم يعد بإمكان الجيش حماية الرئيس ونظامه. وهو ما ضاعف قناعة بشار الأسد بأن الطائفة هي ملاذه الأخير، والحصن المتبقي لحمايته. منذ وصوله إلى السلطة عزل نفسه عربياً، جاعلاً من إيران حليفه الوحيد في المنطقة. بعد الثورة باتت طهران تملك من السلطة داخل سورية ما يتنافس مع سلطة الرئيس نفسه. وهذا واضح من أن الميليشيات الإيرانية، وبخاصة حزب الله، هي التي يمكنه الاعتماد عليها، وليس على ما تبقى من «الجيش العربي السوري».

ثم تبين أن إيران وميليشياتها لا تستطيع حماية الرئيس. فكان لا بد من تدخل الروس، وهو ما حصل في خريف 2015 لإنقاذ الأسد ونظامه من السقوط. المفارقة أنه دخول ضاعف مأزق الأسد، وضاعف تهميشه. وحتى تعامل الروس معه يعكس ذلك. لم يعد يملك زمام المبادرة أمام أحداث تعصف به وببلاده. روسيا هي التي تملك الآن المبادرة. وهي تتواصل وتنسق في ذلك، ليس فقط مع إيران، بل ومع تركيا والسعودية ومصر، وقبل ذلك وبعده مع الولايات المتحدة. الأنكى أن موسكو تنسق أيضاً مع إسرائيل، وتعترف بحقها في توجيه ضربات إلى المواقع السورية متى رأت أنها في حاجة إلى ذلك.

في هذه الحال، ماذا يمكن أن يكون مستقبل الأسد؟ قد يبقى رئيساً من دون صلاحيات أثناء المرحلة الانتقالية، أو أن يتنحى لمصلحة سورية. أما الثالث فهو تمسكه، بدعم من إيران، بالبقاء رئيساً، على رغم كل ما حدث وبُعده. وهذا خيار يهدد بتقسيم سورية.

الشاهد أن هذه الخيارات، وهي تعكس ذروة افتقاد الأسد للمبادرة، لم تكن مطروحة قبل الثورة. الرئيس هو من فرض طرحها بخياراته وتحالفاته مع قوى خارجية ضد شعبه. وإذا كانت الأمور بنتائجها، فإن نتائج هذه الخيارات لا تترك مجالاً لمستزيد. فالتوريث دفع بشار الأسد إلى الاحتماء بالطائفة بدلاً من الدولة، وبميليشيات خارجية بدلاً من الجيش، وبالتحالف مع إيران بديلاً عن مظلته العربية. وليس هناك أكثر دلالة على الضعف وتراكمه من هذه المؤشرات، التي بدأت منذ اليوم الأول لرئاسة بشار الأسد.

أختم بما قاله نائب الرئيس السوري، فاروق الشرع، الذي اختفى من المشهد، قيد الإقامة الجبرية كما يبدو، في نهاية مذكراته التي أنجزها عام 2011، قال عن موقفه من التوريث ما نصه «من حيث المبدأ أنا لا أؤمن بالتوريث... وعندما وافقت... على اقتراح مصطفى طلاس (بتولي بشار خليفة لوالده) فإنما لسببين كنت مقتنعاً بهما: السبب الأول هو أن ذكرى الصراع مع رفعت الأسد عام 1984 ما تزال ماثلة في ذاكرتي... شعرت أن اختيار بشار الأسد سيكون مخرجاً آمناً وبديلاً سلمياً من صراع دامٍ يمكن أن ينفجر إذا أخطأنا الاختيار لأن كل عناصره ما زالت في قيد الحياة. السبب الثاني أن الدكتور بشار... لديه رصيد شخصي وجملة مؤهلات، يأتي في مقدمها رغبته المعلنة في الإصلاح والتحديث»، (الرواية المفقودة، ص457). وهذه شهادة أقل ما يقال عنها إنها لافتة. فهي تؤكد أن النظام السياسي لحظة وفاة الأسد الأب كان يعاني من انقسامات وصراعات حادة لا تزال حية منذ 1984. ثانياً أنها تعتبر تولي بشار الرئاسة كان حينها أقل الخيارات المتاحة سوءاً. وهو ما يعني أن سورية تدفع ثمن توريث فرض عليها فرضاً، وجاء برئيس لم يكن مهيأً لإخراجها من المأزق السياسي الذي انتهت إليه لحظة رحيل الأسد الأب.