سمير عطا الله 

لا بد أننا قرأنا الكثير جميعاً عن الخدع. أو شاهدنا أفلاماً لا تُحصى، مسليةً أو مضحكةً أو دراميةً. لا أذكر الكثير منها. كانت إحداها يوم تظاهر رئيس وزراء ليبيا الراحل عبد الحميد البكوش بأنه سقط قتيلاً في كمين نصبه له رجال معمر القذافي. والتُقطت له الصور وهو «جثة» مغطاة بالدماء. وعندما شاهد القذافي الصورة، خرج على الجماهير يرفع شارة النصر ويعلن هزيمة «الكلاب الضالة». وقرأ البكوش التصريح مع غيره في القاهرة.
لا أدري ما هي الخدعة الأكثر ذكاء. منذ سنوات كتبت هنا مراجعة لكتاب «مستشار الملك» للمحامي الأميركي جاك أوكونيل، الذي كان مكلفاًً من وكالة المخابرات المركزية بحماية الملك حسين. والآن أقرأ ترجمته إلى العربية عن دار «الأهلية» في عمان.
يروي أوكونيل (ت. 2010) أن السيناتور إدوارد كيندي جاء في زيارة إلى الأردن عام 1966 فيما الوضع شديد التوتر. وأصرَّ على القيام بزيارة مخيم فلسطيني للاستماع إلى اللاجئين. وشعرت الحكومة الأردنية والسفارة الأميركية بالخوف والقلق. فالفلسطينيون جميعاً في غضب شديد. وطلب أوكونيل من كيندي إلغاء فكرة زيارة المخيم، فازداد هذا إصراراً.
وذهب أوكونيل إلى مدير الشرطة العقيد راضي العبد الله، مستجيراً: «إذا لم تؤمِّن لهذا الرجل زيارة المخيم سوف يُقضى على مستقبلنا الدبلوماسي وجميع أعضاء السفارة». فكّر العقيد العبد الله قليلاً ثم قال له: «هوّن عليك. دعْه يذهب».
في اليوم التالي ذهب كيندي إلى مداخل المخيم. وعندما قرر المضي قليلاً إلى الأمام، تقدم منه مدير الشرطة وحذره: «لقد ضمنّا سلامتك حتى هذه النقطة، لكنّ اللاجئين، كما تعرف، في حالة غليان، فنرجو منك الاكتفاء بهذه المساحة». مضت الزيارة على سلام. وتحدث كيندي إلى اللاجئين وأصغى إلى شكاواهم.
وفي اليوم التالي سأل أوكونيل العقيد العبد الله كيف استطاع أن يضمن الهدوء في ذلك الجو من المخيم؟ فأجاب: كان الأمر بسيطاً. لقد «غيّرنا اللاجئين». وشرح له أنه استبدل بسكان مقدمة المخيم رجال شرطة أُلبسوا ثياباً مدنية بسيطة. وطلب إلى المتزوجين منهم أن «يؤمّنوا» المظهر العائلي كاملاً مكتملاً، مع القليل من الأطفال.
واكتشف موظف «سي آي إيه» أن كل ما تعلمه في وكالة المخابرات وما شاهده من أفلام بوليسية لا يقارن بهذه الحيلة الهادئة: بقي المخيم في مكانه. وبقي كيندي على إصراره. وجرى فقط استبدال لاجئي المقدمة!