فيكي حبيب 

بين 28 مليون يورو موازنة قناة «روسيا اليوم» سنة 2005 و280 مليون يورو عام 2017، صفر ثمين جداً ينتزع الاعتراف بأن الشبكة التلفزيونية الروسية العالمية الناطقة بأكثر من لغة، لم ترضخ لما يقال عن انتهاء عصر التلفزيون التقليدي، ما يجعلها نجمة العام التلفزيوني بامتياز... وإن أُلصقت بها صفة «الأخبار الكاذبة».

عام أعاد إلى التلفزيون دوراً ظن كُثُر أنه ولّى إلى غير رجعة مع هجوم الشبكة العنكبوتية وطفرة وسائل التواصل الاجتماعي. فمنذ زمن، لم يعد يخطر في بال أحد أن باستطاعة التلفزيون أن يعود إلى لعبته القديمة كآلة دعائية للتلاعب بالسياسات الدولية. لكن «روسيا اليوم» فعلتها وأعادت إلى الواجهة صراعات ظننا لوهلة أنها آلت إلى النسيان، فكانت اتهامات الخصوم لها بالتدخل في الشؤون الداخلية في أكثر من دولة عملاقة لقلب المعادلات السياسية. من هنا لا يعود غريباً أن يضخ الكرملين الشبكة بكل هذه الأموال في وقت خُفضت غالبية النفقات الحكومية الأخرى.

ويقيناً إنه بين مقال «بلومبرغ بيزنسوويك» الذي سلط الضوء مطلع العام على الآلة الإعلامية الروسية التي تسير «في اتجاه مضاعفة نفوذها العالمي في الغرب للتأثير في السياسات الدولية»، وإطلاق قناة «روسيا اليوم- فرنسا» قبل أيام قليلة من وداع السنة، شهدت الـ2017 كثيراً من المعارك على جبهة العلاقات الروسية- الغربية، فكانت «روسيا اليوم» مسرحاً للصراعات التي احتدمت بعد اتهام موسكو بالتأثير في مسار الديموقراطية الأميركية عبر التضليل وضخّ البروباغندا والأخبار الكاذبة خلال الانتـــخابات الرئاسية التي فاز فيها دونالد ترامب. ولم يكن غريباً أن تعتبر وكالات استخبارات أميركية أن القناة التي تبث برامجها من الولايات المتحدة بمثابة «الآلة الدعائية الحكومية لروسيا»، وأنها ساهمت في حملة الكرملين للتدخل في الانتخابات الرئاسية الأميركية العام الماضي لمصلحة ترامب.

وكما في الولايات المتحدة، كذلك في فرنسا، وُجهت اتهامات للشبكة التلفزيونية الروسية بأنها لم تكن في منأى عن الانتخابات الرئاسية، بل أن الرئيس إيمانويل ماكرون نفسه اتهمها صراحة بنشر معلومات مضللة عنه خلال الانتخابات، واستقبل قرار إطلاق القناة أخيراً في بلاده بكثير من الحذر.

ولم تكتف اليد الروسية الإعلامية بهذا الحد، بل هناك اتهامات بامتدادها إلى الانتخابات الألمانية، في محاولات للتأثير في الخيارات السياسية للمهاجرين الروس الذين وفدوا من الاتحاد السوفياتي سابقاً ليستقروا في ألمانيا بعد إثارة مخاوفهم حول توافد المهاجرين إلى أوروبا.

«بروباغندا جديرة بالحقبة السوفياتية»، كتبت «بلومبرغ» في معرض الحديث عن اليد الروسية التي تمتد على الانتخابات الغربية من خلال وسائط عدة، أبرزها الشاشة الصغيرة، ما استدعى تحرك السلطات الأميركية التي فرضت على «روسيا اليوم» أن تسجل رخصتها كوكيل أجنبي غير عابئة بما يمكن أن يقال عن مخالفة مبادئ الديموقراطية وحرية التعبير، خصوصاً حين تحدد «الأخبار الكاذبة» مصير أكبر قوة عظمى في العالم.

«الأخبار الكاذبة» شكّلت أيضاً محور المعركة بين ترامب وشبكة «سي أن أن» التلفزيونية، إلى درجة أن حرب التغريدات عادت واشتعلت بين الرئيس الأميركي وشبكة الأخبار الأميركية على شبكة التواصل الاجتماعي «تويتر»، بعد نشر ترامب قبل شهر تقريباً تغريدة هاجم فيها «سي أن أن»، قائلاً إنها «تعدّ مصدراً مهماً للأخبار الكاذبة وتعطي صورة سيئة عن الولايات المتحدة للعالم»، فكان جواب «سي أن أن»: «عملنا ليس تقديم الولايات المتحدة للعالم، إنه عملك، مهمتنا هي تقديم الأخبار». وهنا بالذات بيت القصيد، فلا عجب أن ينعكس الجنون الذي يعيشه العالم على المنصات الإعلامية، وتحديداً على شاشة التلفزيون، فتنتعش «البروباغندا» على حساب «الخبر». ولنا في بلادنا أمثلة لا تعد ولا تحصى، خصوصاً في زمن «داعش» وأخواته حيث وقع الخطاب الإعلامي في قبضة لغة خشبية، أرجعتنا في الذاكرة إلى حقبة سابقة، لا تعير وزناً إلا للأجندات السياسية الضيقة. وبالتالي، لم تعد نشرات الأخبار مادة للأخبار بل باتت مادة لكل أنواع السموم والتلفيق والأخبار الكاذبة. ولا عجب أن تتداول الشاشات أخباراً متناقضة، كل شاشة بحسب أهوائها وأيديولوجيتها وميولها السياسية. فما نشرته، مثلاً، هذه الشاشة من أفلام مصورة لـ «أسرى من مقاتلي تنظيم داعش الإرهابي بعدما وقعوا في يد قوات سورية الديموقراطية بعد تحرير الرقة»، ليس على شاشة مناوئة إلا «مسرحية فاشلة عن بطولات وهمية للأكراد». وعلى هذا المنوال، وأكثر، برزت الاصطفافات السياسية، بحيث لا يعود هناك غرابة في أن يلجأ المشاهد إلى القناة التي تثير غرائزه، نابذاً كل ما عداها. أما الحديث عن مشاهد محايد فشبيه بالحديث عن جمهورية أفلاطون.

تُرى، هل من خوف بعد على مستقبل التلفزيون؟